مصر الجديدة أقرب أحياء القاهرة إلى قلبى، ورغم ذلك عندما ذهبت للبحث عن عنوان «الرجل المهم» توترت وغضبت وفكرت فى الاعتذار عن المقابلة، ولك لأننى أحسست بالاستفزاز الأمنى، فلقد كان بيت «الرجل المهم» قريبا من «الرجل الأهم»!
و«الرجل المهم» عندما ذهبت إليه وحتى الآن -كان مهما جدا فى فترة سابقة، ولا علاقة للأمن به الآن- ولكن التجول والتوقف والسؤال قرب سكن الرجل الأهم أمر غير مرغوب.
ولقد لازمتنى هذه الصورة فيما بعد عندما ذهبت لزيارة الرئيس السابق «على كافى» فى بيته فى الجزائر العاصمة، فلقد كان فى منطقة مدنية لها طعم عسكرى، وأسوار تحتجز من تريد، ودبابات تحرس المكان، ولا علاقة لبيت الرجل الأهم فى مصر الجديدة بزيارتى لبيت الرئيس على كافى، وأرجوك لا تتعجل ما أرويه.
«الرجل المهم» تعرفت عليه وكنت أعرف مثل غيرى أنه الصندوق الأسود الأكبر وأنه ملىء بالمعلومات عن تاريخ مصر الحديث، ويضاف إلى ذلك أنه لا يباريه أحد فى تحقيق المعلومات.
وكان دافعى لزيارة الرجل المهم مثل زيارتى للرئيس الجزائرى وهو الفضول النهم للمعلومات.
الرجل المهم قضى تسعة عشر عاما فى السلطة، وكان فى نهايتها وزيراً، ولكن أى وزير! وربما نسينا وزراء مهمين ولكن هذا لا يمكن نسيانه.
وصلت أخيراً إلى بناية لا بأس بها، ولكن لا رفاهية حولها كحديقة مثلا أو أماكن مصطنعة بالزهور، ولم أتوقف عند هذا وتلفت أبحث عن الأمن، فلم أجد أحداً، وكنت متأكدا أن الرجل المهم -سابقا طبعا- لابد أن يكون حوله أمن من نوع ما إذا لم يكن لحمايته فلحماية النظام منه، وطال وقوفى خاصة أننى لم أكن أعرف أين الشقة، وبعد فترة كدت أغامر فيها، رأيت بوابا يحمل أشياء فسألته فذكر مكان الشقة مستعينا بإشارة من يده.
دست على الجرس، وبعد لحظات فتح الباب وظهر الرجل المهم متهللا كأننى رجل مهم -وهذا ما أشك فيه- أو أنه كان ينتظر أى شخص يزوره، وأخيراً جاء، وهذا ما يمكننى أن أصدقه، فلقد كان فى وحدة شديدة.
بيت جميل لا يشى أبدا بالمناصب الهامة التى شغلها فليس فيه ثراء الجمال، بل البساطة، لا سكرتارية ولا خدم، ومع تكرار زيارتى عرفت أن هناك خادمة تأتى مرتين فى الأسبوع، ليس فى البيت غير سيدة البيت منذ أول لحظة تدرك أن هذه هى السيدة المصرية التى بدأت بإيزيس، وإذا حكت عن نفسها أو حكى أحد عنها فستجد أنها تشبه أمك أو أختك أو خالتك أو...
هذه السيدة الفاضلة رعت الأولاد والأسرة وزجها مشغول من التاسعة صباحا إلى الواحدة صباحًا لمدة تسعة عشر عاما، ثم حملت عبء الأسرة وزوجها -الرجل المهم فى السجن يقضى عقوبة بتهمة مخاصمة النظام لمدة عشر سنوات لم تنقص يوما لأنه رفض أن يقدم استرحاما لرئيس الجمهورية.
هذا الرجل قضى تسعة وعشرين عاما من حياته فى عذاب، ففى البداية يعمل منذ التاسعة صباحًا إلى الواحدة صباحًا، أى أنه لا يحضر عرسًا إلا إن كان حضوره عملا للدولة، ولا ينزه أولاده، ولا يشترى لنفسه بدلة لأن السيدة الفاضلة زوجته تشترى ملابسه، ونسيت أن أسأله هل تشترى له أحذيته؟!
ثم بعد ذلك سجن لمدة عشرة أعوام.
كررت هذا لأننى أريد أن أجذب انتباهك إلى ما سيأتى، ففى ذات مرة وقد تكررت لقاءاتنا كثيراً، ونشأت بيننا صداقة عميقة، قال لى ما لا أتخيل أننى سأسمعه منه فى يوم من الأيام، وربما من أى أحد.
وذات مرة أخذت أحصر أهم الجمل التى سمعتها فى حياتى فكانت جملة الرجل المهم على رأسها، لذلك أرجوك أن تركز معى، ولو لآخر مرة، كان البيت هادئا كالعادة، والإضاءة خافتة ربما للتوفير، ما يقوله الرجل المهم شديد الأهمية، وفجأة قال تعليقًا على شىء ما، فيه:
«أصل حكم مصر زى العسل»!!.. كان صديقى هذا من الذين حكموا مصر، أين العسل فى حياته؟! 19 عاما يعمل ليل نهار مقابل راتب عادى جداً لم يتح له شراء بيت، عشرة أعوام فى السجن لا يرى زوجته وأولاده إلا فى الزيارات الرسمية، وبعد هذا كله خرج من السجن فانتظرته أسرته فى تاكسيات لتوصله إلى البيت.
وبعد أن وصل إلى البيت اكتشف أن العيال كبروا وأنهم مقبلون على الزواج، وأنهم لا يملكون ما يتزوجون به، ويتدخل أولاد الحلال فيقدمون يد المساعدة لهم.
أين العسل؟
أردت، ومازلت أريد أن أسأله، ولكننى خجلت.. وأعود إلى قصة لقاء الرئيس على كافى «لا لشىء إلا لأننى وعدتك أن أحدثك عنها، ولأننى من هواة خلط الأشياء بالأشياء وأبدأ بأن الأمور الشخصية تكون أحيانا دافعاً للأمور العامة، وأذكر قريبا لى وهو صديق أيضًا كان يعمل بحاراً، ولأنه كان مهملا بطبيعته تأخر عن الباخرة المسافرة إلى الجزائر، ونسفت المركب بالقرب من الحدود الجزائرية ومات معظم من كانوا فيها وبالطبع كان قريبى سعيدا بإهماله وكان يحكى قصته فى كل مكان، وشجعنى أن أكتب كتابا عن الكسل، فلقد كنت أرى -ومازلت- أن هناك الكسل الإيجابى والكسل السلبى، ووصل إلحاح قريبى هذا أنه تبرع بطبعه على نفقته الخاصة، ولكننى لم أكتب الكتاب كسلا.
وذات مرة سمعت أن الرئيس على كافى يعرف تفاصيل عن الباخرة التى نسفت فتمنيت أن أسأله عما حدث.
وفى بداية الألفية الثالثة -على ما أذكر- انتشرت المذكرات فى الجزائر وأثارت مذكرات نزار خالد وزير الدفاع السابق ضجة كبيرة، وفى هذه الفترة زرت الجزائر وكان من أهم أهدافى الحصول على مذكرات نزار خالد وعلى كافى.
وكنا فى نهايات الحرب الأهلية الجزائرية فحصلت بصعوبة على مذكرات نزار خالد، ولم أستطع الحصول على مذكرات على كافى.
وكان معى صحفى جزائرى أخرج الموبايل وفؤجئت به يقول: سى على الأستاذ فلان يسأل عن مذكراتك ولا يجدها.. وطال الحديث. توقف، وسألنى:
- لديك وقت لنذهب إلى سى على كافى الآن؟!
وبعد قليل كنا فى هذا الكومبوند الذى أقاموه لكبار رجال السلطة السابقين، والذى يتمتع بحماية تخيف أمثالى من المسالمين، واستقبلنى الرئيس -السابق طبعا- على كافى بنفسه خارج البيت، وأشرف على تقديم القهوة أما «البسبوسة» فلقد قدم أطباقها لنا بنفسه، ولما كنت عميد محبى البسبوسة بعد وفاة صلاح أبوسيف وأحمد بهاء الدين رحمهما الله، فلقد تشاركنا حديثا طويلا حولها.
وبالطبع سألته عن حادثة الباخرة، فى الحقيقة سألته ثلاث مرات، وفى كل مرة كان يغير الموضوع، وأدركت أنه لا يريد التحدث فيه، وقدرت هذا بعد أن عرفت أن المجتمع الجزائرى، الذى يشبه كثيرا المجتمع المصرى -يختلف فى قضية الأسرار- ففى الجزائر قد تودى بصاحبها لو قالها، أما عندنا فالأسرار لا تظل أسراراً إلا بقدر الرد على التليفون.
وكان الصحفى الذى صاحبنا يتوقع أن نجد نسخة من مذكراته فى البيت، لكنه اعتذر بشدة والتفت إلى معزيا: إنها بالعربية وأول الشهر ستظهر بالفرنسية!
أحسست فيما قال والله أعلم بالقلوب أنه يقول لى كل تأخيرة وفيها خيرة، فإذا لم تجد الطبعة العربية ها هى أمك قد دعت لك فستجد الطبعة الفرنسية.
حاشية هامة: أهم معارك الجزائر هى التعريب، والجزائريون يلمحون بانقلاب بومدين على بن بيلا، بالانحياز إلى التعريب، والحرب قادها الإسلاميون فى الجبال الوعرة تحت شعار التعريب، والمثقفون يناقشون موضوع التعريب والتغريب ثلاث مرات فى اليوم وفى غالب الأمر تكون مناقشاتهم بالفرنسية.
وذات مرة كنت عضو لجنة تحكيم مهرجان المسرح بقرطاج وكان كل أعضاء اللجنة -وكانوا 9 أشخاص على ما أذكر- يتحدثون الفرنسية ماعداى، وكان هناك ثلاثة لا يعرفون العربية! لذلك كانت المناقشات تنتهى بالفرنسية.
وبعد قليل قدمت اعتذارا لعدم قدرتى على المتابعة فعينوا لى مترجما من الفرنسية إلى العربية، وبعدها بقليل احتج الكاميرونى وكان يحدثنى دائمًا عن كرة القدم! وقال إننى الوحيد الذى يأخذ وقتًا لاتخاذ القرار، فمنذ البداية أعرف الموضوع وحتى انتهاء الترجمة أكون قد اتخذت قراراً صعبا انتقاده، وفى أثناء المداولات ولم يكن المهرجان قد انتهى دفعوا لنا مقابل مشاركتنا، وعادة أنا لا أحب هذا، لذلك فكرت فى دعوة أعضاء اللجنة إلى العشاء للتخلص من المكافأة وتوسعت فدعوت إدارة المهرجان، وعندما أتوا كان معهم زوجاتهم، أو أصدقاؤهم، أو من تخيلوا أنه كان يجب دعوتهم ولم يحدث بسبب النسيان مثلا، وملأنا قاعة كاملة وبعد السلام والذى منه أخذوا يتكلمون جميعا بالفرنسية، وكان الداعى -الذى هو أنا- جالسا لا أحد يتكلم معه.
خرجت بك بعيداً عن «حكم مصر زى العسل» حتى تجد وقتا تفكر فيما قال الرجل المهم، أكثر من عشر سنوات وأنا أقلب الجملة فى رأسى.
وأخيراً أدركت أنه لن يشرحها لى إلا الرئيس الجديد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
Andro
رائع و ذى العسل يا عسل - مقالة ممتعة
فوق