قبل أيام استقبل المصريون نداء من المجلس الأعلى للقوات المسلحة يدعوهم فيه إلى أن يجعلوا من شهر يونيو الجارى مناسبة لمحو ما علق فى أذهانهم من تبعات لنكسة يونيو 1976، وذلك عبر التوجه لصناديق الاقتراع فى جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية، لاختيار «أول رئيس ديمقراطى للبلاد» وأن يجعلوا من هذا اليوم عيدا قوميا يستبدلون به اجترار أحزانهم مع حلول «شهر النكسة» من كل عام.. كثيرون ربما هيأوا أنفسهم للتعامل بإيجابية مع نداء العسكرى، وآخرون أخذتهم الأمنيات إلى أن تكون «الفرحة فرحتين» ببدء الشهر، بصدور إدانة حاسمة للرئيس المخلوع وابنيه ووزير داخليته حبيب العادلى ومساعدى الأخير فى الاتهامات الموجهة إليهم بقتل المتظاهرين والفساد المالى، وإنهائه بإسدال الستار على أول انتخابات تعددية حقيقية لاختيار رئيس للبلاد «بغض النظر عمن وصلا إلى جولة الحسم فيها».. لكن لم يدر بخلدهم أن تكون البداية بـ«نكسة جديدة» أعلنت هذه المرة من داخل أكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس، حيث مقر «محاكمة القرن».
فما بين حكم يحدثك أى مواطن عادى لا علم له بنصوص القانون، بأنه «سياسى» بالمؤبد على مبارك ووزير داخليته، وما بين أحكام بالبراءة بحق معاونى العادلى الستة من الاتهامات بقتل المتظاهرين، وبالبراءة لابنى الرئيس السابق علاء وجمال وصديقه المقرب حسين سالم ولمبارك نفسه من اتهامات الفساد المالى، أصبح هناك إجماع على أن ما جرى طوال الشهور الماضية من جلسات محاكمة فى هذه القضية، لم يكن سوى مسرحية هزلية، انتهت إلى تكريس الشعور بأن يونيو صار مرتبطا بـ«النكسات» لدى المصريين، خاصة وأن مقدمته هذا العام، باتت لا تحمل بشائر خير لنهايته.
الحكم والقضية ترتبط بهما أطراف عدة، وبالتالى يمتد تأثيره إليها وإلى أحداث عديدة مؤثرة بالمشهد المصرى، فالمجلس العسكرى والذى يدير شؤون البلاد منذ نجاح ثورة يناير فى إطاحة رأس النظام السابق مبارك قبل نحو العام ونصف العام، باتت أيامه فى الحكم معدودة بحكم الموعد الذى حدده سلفا لتسليم السلطة فى نهاية الشهر الجارى، وقد أنجز الإشراف على إجراء الانتخابات الرئاسية، ويرى كثيرون أن مجرد صدور إدانة بحق الرئيس مبارك، سيعنى أنه أنجز أيضا مهمة أخرى بإتمام محاكمة الرئيس السابق، وهو أمر لا يلقى صدى فى الشارع المصرى، الذى تعامل مع القضية منذ بدايتها على أنها مسرحية هزلية، وتكرس هذا الإحساس لديه بصدور حكم يسهل الطعن عليه، وربما إلغاؤه أمام درجة تقاض أعلى «النقض»، ما دفع عددا من القوى السياسية إلى تجديد مطالباتها فور صدور الحكم بالعودة إلى الميادين، والثورة على العسكرى، متهمين إياه بالتخطيط لعودة نظام مبارك.
وعلى العكس مما يعتقده كثيرون من أن الحكم بإدانة الرئيس السابق يصب فى صالح المرشح الرئاسى أحمد شفيق المحسوب على نظام مبارك، فإن هناك بالمقابل من يرى أن الحكم يصب فى صالح زيادة شعبية منافسه محمد مرسى مرشح جماعة الإخوان المسلمين، فى ظل خشية قطاع كبير من الناخبين من ناحية، وجميع القوى والحركات والائتلافات السياسية والثورية من ناحية أخرى، من أن يعنى صعود شفيق لسدة الحكم إفراجه عن الرئيس المخلوع، سواء استند فى ذلك إلى صلاحياته كرئيس للدولة، أو إلباسه لباس «العفو الصحى»، وهو ما يعتقد معه مراقبون أن عددا من القوى الثورية والسياسية قد تغير مواقف مناهضة لجماعة الإخوان المسلمين، أعلنتها فور صعود مرشحها مرسى لجولة الإعادة، وأن تضيف إلى تعهدات سبق أن طرحتها على الجماعة ومرشحها تعهدا جديدا بالإبقاء على مبارك رهنا لسجنه، وربما إعادة محاكمته، وهو تعهد يبدو أسهل فى الطرح على مرسى من منافسه شفيق، الذى سبق له أن أعلن بشكل صريح ارتباطه الشخصى بالرئيس السابق وأنه بمثابة القدوة له، ويعتقد الكثيرون أن عودته تعنى عودة النظام القديم ورجالاته الذين أضيف إليهم الآن عودة رأس النظام نفسه ونجاته من المساءلة.
مؤسسة القضاء تعد الأقرب بعد المجلس العسكرى ومؤسسة الرئاسة، لأن تطالها رياح تأثيرات الحكم، فالشعار الذى هتف به أهالى الشهداء والمدعون بالحق المدنى فى قاعة المحاكمة «الشعب يريد تطهير القضاء»، صار على الفور شعارا لكثير من المسيرات والمظاهرات الاحتجاجية المنددة بالحكم، كما صار عنوانا لكثير من بيانات وتعليقات القوى والأحزاب والحركات السياسية، ودعا البعض منها لإقالة النائب العام، متهمين إياه بالتقاعس عن تقديم أدلة الاتهام منذ بداية المحاكمة.
الحكم بمعاقبة مبارك والعادلى بالمؤبد وبراءة باقى المتهمين، جاء صادما للكثيرين، ويحمل فى طياته أيضا – بحسب الجبهة الشعبية للتغيير السلمى – رسائل للرئيس المقبل ووزير داخليته ومساعديه وكل المنظومة الأمنية فى البلاد، بأن تستأنف ممارسات القمع وهم آمنون من المساءلة، فحتى ما صدر من إدانة يمكن الطعن عليه وتخفيفه أو إلغاؤه، وكل ما يرتكبونه بحق معارضيهم لن يمكن إثباته، بعد أن تحدث رئيس محكمة القرن «أحمد رفعت» عن أن المستندات فى القضية خلت من أى شواهد.
تساؤلات عدة فرضت نفسها فور النطق بالحكم، فكيف تتم إدانة مبارك ووزير داخليته فى قضية قتل المتظاهرين، وبحكم هو بالتوصيف القانونى «مشدد» وفى الوقت نفسه تتم تبرئة كبار مساعدى وزير الداخلية، وبينهم مدير قطاع الأمن المركزى ومدير جهاز مباحث أمن الدولة، وكلاهما تعامل بشكل مباشر مع مظاهرات ثورة يناير، وإذا كانت قد تمت تبرئة هؤلاء ومن قبلهم ضباط وأمناء الشرطة المتهمون بقتل المتظاهرين، فمن إذن الذى قتل الشهداء وأسقط آلاف المصابين بالرصاص الحى والخرطوش؟، وأحكام البراءات هذه وما يمكن أن يلحق بها من نقض الحكم على مبارك والعادلى.. هل تعنى ضياع حقوق الشهداء والمصابين، وإهدار حقوق ذويهم؟
وعندما كان يتساءل الناس بعد الثورة، لماذا لا يتم إعدام مبارك بمحاكمة ثورية، كان الرد الفورى لأنه إذا أعدم ستضيع المليارات التى قام بتهريبها هو وأسرته وأركان نظامه للخارج.. الآن وقد تمت تبرئة مبارك وابنيه من اتهامات الفساد المالى، عاد الناس ليتساءلوا: هل ضاعت هذه المليارات، والأكثر هل أصبحت محصنة بأحكام البراءة هذه وانضمت عودتها إلى مصر إلى المستحيلات الأربعة؟!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة