د. محمد محسوب

براءة الفساد

الخميس، 07 يونيو 2012 09:37 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
واحد من أهم أهداف ثورة 25 يناير هو تخليص مصر من عار الفساد الذى لاحقها عبر العقدين الماضيين، وكذلك استرداد أموالها المنهوبة التى لو عادت لأسهمت بقدر كبير فى تسريع خطوات النهضة التى يحلم بها الشعب بعد ثورته المجيدة. غير أن خطوات مواجهة الفساد على مدار العام السابق كانت خجولة وشكلية وأحيانا خادعة، بحيث تحاول إرضاء الشعب بقضايا غير جوهرية أو بمتهمين غير أساسيين، وفى هذا الاتجاه حاول اتجاه تبرير الفساد الذى مازال فاعلا فى ربوع البلاد، الاستفادة بما يسمح به قانون الاستثمار من إجراء تصالحات بين المستثمرين وجهات الدولة بشأن ما قد يرتكبه المستثمرون من أخطاء ولو وصلت لحد الجرائم ليستفيد منه رجال السلطة الذين حازوا النفوذ وسهلوا الفساد، رغم الفارق بين الحالين: فالمستثمر الذى أخطأ كان ضحية للفساد كبقية الشعب، ومن ثم فتح باب التصالح معه بما يحفظ حقوق الدولة هو أمر منطقى بل واجب، بينما حائز السلطة، سواء كان موظفا عاما، أو متسلطا بغير وظيفة مثل جمال مبارك أو حسين سالم بما لهما من نفوذ سياسى، هو من رعى الفساد وفرضه دينا وعقيدة فى طول البلاد وعرضها، ويقتضى تخليص البلاد من الفساد عدم التصالح أو التسامح أو التخفيف عنه. وهو الاتجاه الذى تبنته اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد فنصت فى مادتها الثالثة عشرة على حظر التسامح مع الفساد.
وفى مجال استرداد أموال المصريين المنهوبة بالخارج، التى تشتغل غالبية شركات توظيف الأموال وإداراتها على إخفائها فى العالم وإعادة تهريبها من بلد لآخر ومن قالب قانونى لآخر. فإن الفترة الماضية منذ قيام الثورة كانت دليلا واضحا على عدم رغبة البعض فى اتخاذ إجراءات واضحة أو حاسمة لفتح هذا الملف، والتعامل معه فى حدوده الدنيا بما يرسل رسائل تطمين للرأى العام بأن هناك حركة فى الاتجاه، وهى فى حقيقتها حركة فى المكان.
وأخيرا ضربنا الحكم الصادر يوم الثانى من يونيو، فيما اصطلح على تسميته بمحاكمة القرن بما صدم القانونيين قبل الرأى العام.
وإذا كانت لا تهمنا كثيرا تفصيلات التهم التى تمت إحالة المتهمين على أساسها، ولا تفاهة الأموال المتهمين بالاستيلاء عليها أو بالتحصل عليها عطيةً، فإن الأهم بالنسبة لنا هو المبادئ الكارثية التى أرساها الحكم والتى تنذر بإغلاق كثير من ملفات الفساد بما لا يسمح لنا ببحثها أو بتناولها أو التحقيق فى وقائعها أو معالجة آثارها، وكذلك وضع عراقيل مذهلة أمام إمكانية معالجة قضايا أخرى.
ويتمثل المبدأ الأول فيما أقره الحكم بأن الوقائع الجنائية التى ارتكبها النظام السابق قبل عشر سنوات من سقوطه أصبحت محصنة ولا يجوز تحريك الدعوى الجنائية بشأنها لأنها سقطت بمضى المدة «!!» وهو الأمر الذى لو صح، وهو غير صحيح، فإن أهم قضايا الفساد فى التسعينيات وحتى سنة 2002 تم إغلاقها تماما وحماية مرتكبيها، ومن بين هذه القضايا ما شاب عمليات بيع القطاع العام من جرائم بشأن تلقى رشاوى أو تلاعب فى التقييم أو الإضرار بالأمن الاقتصادى المصرى، الذى تم فى أغلبه فى فترة التسعينيات. وكذلك إغلاق ملفات الجرائم التى صحبت بيع ديون مصر خلال نفس الفترة. ويترتب على ذلك بالضرورة أن نواتج الفساد التى نشأت عن جرائم اقترنت بتلك العمليات لن نتكمن من تتبعها أو ملاحقتها، فضلا عن تجميدها أو استردادها، من البلاد التى هُربت إليها، إذ كيف سيتأتى لنا إقناع المحاكم الأجنبية بسلامة موقفنا ونحن ممنوعون من التحقيق فى هذه الجرائم أو تحريك الدعوى الجنائية بشأنها بموجب حكم قضائى مصرى ؟!.
ونعتقد أن سقوط مثل هذه الدعاوى بمضى المدة أمر فيه نظر، فقد استقرت محكمة النقض المصرية على مدار الثلاثين سنة السابقة على رفض عدم قبول الدعاوى بمضى المدة فى دعوى التعويض عن التأميم أو رد الأموال، التى كانت تحت الحراسة أو التعويض عنها رغم رفعها بعد فوات مدد السقوط التى قررها القانون، مستندة إلى أن وقائع التأميم والحراسة وقعت فى فترة الستينيات، وأنه لم يكن متصورا من المضرورين المسارعة بإقامة الدعوى فى وقت كان يمكن اعتبارهم معارضين للنظام وللسياسة العامة للدولة لو أقدموا على ذلك، مع ما قد يترتب على ذلك من آثار سيئة بالنسبة لهم، ومن ثم فإنهم كانوا ضحية إكراه معنوى يوقف معه سريان التقادم. والأمر أكثر وضوحا فى حالتنا، إذ لا يمكن أن يدعى أحد أن أحدا كان يمكنه أن يتقدم ببلاغ ضد مبارك أو ابنيه أو كبار مساعديه.
ولا يتوقف أثر هذا الحكم المعجز عند هذا الحد، فإن الأموال نواتج الفساد خلال السنوات العشر السابقة والتى لم تتقادم بعد -من وجهة نظر الحكم- مهددة بعدم إمكان تتبعها أو استردادها، إذ تطوع الحكم ليمنحها قرينة البراءة، فأصدر حكما فى وقائع محدودة جدا، لكنه أثبت سلامة سلوك الرئيس المخلوع وسلامة تصرفات ابنيه وشريكه الأول، بما يجعل لهؤلاء الحق فى التمسك بتلك القرينة أمام جهات التقاضى بالخارج وأمام المؤسسات المالية التى كان بعضها مترددا فى السماح لهؤلاء بتحريك أموالهم بين بعض المصارف خوفا من إدانتهم، وها هى البراءة واتتهم، ومن ثم يستردون حقهم فى تحريك تلك الأموال ومواصلة مسلسل إخفائها.
كما إن أثر هذا الحكم على قضايا غسيل الأموال بسويسرا وتسليم حسين سالم من إسبانيا لا يمكن إغفالها إلا لو كان الهدف هو الاستمرار فى إرضاء الرأى العام وتطمينه بغير الحقيقة، وهو أمر لا يمكننى المساهمة فيه، فإن تسليم حسين سالم لمصر محاط أصلا بعوائق كثيرة رغم صدور حكم المحكمة الإسبانية، وها هو عائق جديد يُضاف لذلك، فالمطلوب تسليمه تمت تبرئته فى أهم القضايا من الناحية النظرية «محاكمة القرن».
بل إن تأثير الحكم على أى قضية تحكيم دولى بشأن عقد الغاز سيكون فادحا، إذ حرمنا الحكم من مخرج مهم ودفع مثالى قررته اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بإمكانية إلغاء أو فسخ العقود التى أبرمها النظام الفاسد مستغلا نفوذه وسلطته لتحقيق مصالح خاصة، إذ تنص المادة 34 من الاتفاقية على أنه «.. يجوز للدول الأطراف أن تعتبر الفساد عاملا ذا أهمية فى اتخاذ إجراءات قانونية لإلغاء أو فسخ عقد أو سحب امتياز أو غير ذلك..».
وأخيرا فما كان أغنانا عن هذا الموقف لو كنا، منذ البداية، جادين فى عملية معالجة الفساد وملاحقة أموالنا المهربة لاستردادها، وهو ما كان يوجب علينا، كما دعوت له دوما، أن نشكل محكمة خاصة لمعالجة ملف الفساد الداخلى جملة، ونشكل لجنة لاسترداد أموالنا من الخارج باختصاصات قضائية واسعة لنضع بين أيديها ملف الأموال المهربة برمته، وهو لو حدث لسمح لنا بمعالجة الموضوع بشكل عاقل وواعٍ، بحيث لا يصدر حكم فى وقائع محدودة تؤثر على وقائع أكبر ومصالح عليا للدولة المصرية.








مشاركة

التعليقات 4

عدد الردود 0

بواسطة:

مصري

نحسبك !!يا دكتور محسوب !!.................من أهل الحق !! في زمن (العهر !! الباطل !!)

عدد الردود 0

بواسطة:

مصرى غلبان

هل للقضاة أن يقرأون؟

عدد الردود 0

بواسطة:

مصرية جدا

أستاذ محسوب.. مصر ضايعة خالص..فقط لولا ستر ربنا

عدد الردود 0

بواسطة:

مصري بيحب مصر

ليس نقدا لكن تساؤلات

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة