فى كلاسيكيات المسرح التقليدى الأول يوجد ما يسمى بـ«الجوقة»، وهى عبارة عن مجموعة من الممثلين المدربين جيدا على اصطناع حالة من التوحد مع الرسالة التى يوصلونها للمشاهد، يتكلمون بنبرة واحدة، وصوت واحد، وكلام واحد، فى وقت واحد، يرددون كلمة أو جملة من كلمات البطل، يعبرون عن ضمير البطل، أو عن الضمير الجمعى، أو يطعمون المسرحية بحكمة أو شعر أو نبوءة، تندمج الجوقة مع الحالة العليا للمسرحية حتى تحسبها هى والمسرحية «واحد». وبرغم أن أفراد الجوقة متعددون، لكن الجميع يتعامل معها باعتبارها «فرد» حتى إن اسمها «جوقة».
رصانة ما بعدها رصانة، وقوة فى طرح الرؤية تنزع الانتباه من جوارح المشاهدين، ينطلق الصوت من أحد جوانب المسرح فيشد الجميع، هنا صوت ينطلق وكأنما يخاطب الأبدية، هنا صوت قادر على المكاشفة والمصارحة والمواجهة والاستبصار، هنا صوت يأتى من الخارج البعيد والداخل البعيد أيضا، فليستعد الجميع، فما سوف يقال يستحق الاستعداد.
فى كلاسيكيات المسرح التقليدى، تجاوزت الجوقة دورها الدرامى، وأصبحت أداة كشف، كلمات راسخة متزنة تخبرك وكأنها يقين اليقين، وفى هذا الزمن البعيد، كانت الأساطير تلهث من أجل اكتشاف الكون، ووضع التصورات الأولى لنشأة البشرية، وكانت الفلسفة أيضا تشق طريقها نحو النور، واضعة تفسيراتها الأولية لسر الحياة والموت، وفوق كل ذلك أتى الأنبياء بما أوحى إليهم، ليسطروا فى صفحات الإنسانية زمن الجلال والرهبة والكشف.
مع تطور فن المسرح تطورت الجوقة أيضا، وأصبحت تؤدى دورا حياتيا، مشتبكة مع الحياة وتجلياتها فى سياق الدراما المسرحية، كأن تتدخل مثلا فى سير الأحداث، أو تحرف مسار البطل، وكأنها ترسم بذلك التدخل مشيئة الله فى المصائر. وبرغم أن فن المسرح قد وصلنا متأخرا، لكن ما لا شك فيه أن «آلية الجوقة» أو الكورس أو الكورال انتقلت إلينا فى زمن سابق، حيث تواجدت بكثرة فى الأعمال الغنائية والفنية، كما انتشرت بكثافة فى أناشيد مدح الرسول والابتهالات، ويبدو أنها جاءت إلى الثقافة العربية بعزل عن نشأتها اليونانية، ومن الممكن أن يكون العرب قد اكتشفوا أثرها الجليل بعفوية حينما كانوا يترنمون بآيات القرآن فى جماعة، فاكتشفوا ما للصوت الجماعى من رهبة وجلال وتأثير.
استمرت الجوقة فى دورها وتواجدها فى أغانى التراث الشعبى وحفلات الذكر والمدح والابتهالات، حتى ما بعد ثورة يوليو، وحينما أتت فترة المد القومى كان للجوقة دور كبير فى الأوبريتات والأغانى الوطنية الكبيرة، لكن يوما بعد يوم اختفت الجوقة من المسرح المصرى، واختفت حتى من الأغانى الوطنية، واقتصر وجودها على الأغانى الشعبية، لكن بطريقة مبتذلة رخيصة، ما يعنى أن تطور دور الجوقة كان سلبيا، لينسحب عنها جلالها، وينحصر دورها فى ترديد كلمات المطربين والمطربات بخلاعة واستسهال.
مرت ثورة يوليو، وأتت ثورة يناير، ومازالت الجوقة بشكلها القديم أو بتطورها الإيجابى مختفية، لكن عادة ترديد الكلام لم تختف، أصبح الكل يردد ذات الكلام، لكن بلا تنغيم ولا رؤية ولا استكشاف، والآن بعد ستين عاما من حكم العسكر، وبعد ثورة «أبهرت العالم» اتسعت الجوقة، لتشمل منافقى السلطة الجديدة والمسبحين بحمدها، أى أننا بعد ستين عاما من حكم العسكر، وثورة أبهرت العالم، لا يمكن أن نقول إن الجوقة لم تتطور، بل على العكس تدهورت واتسعت، وما شعورك بالصداع الآن إلا من اتساع الجوقة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
Medhat mostafa
مخيون
عدد الردود 0
بواسطة:
يحيي رسلان
الي المعلق مدحت
عدد الردود 0
بواسطة:
يحيي رسلان
الجوقة التي يتمناها السمري
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
الى رقم 2
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود المصرى
الى رقم 2 رسلان
عدد الردود 0
بواسطة:
جمال عبد الناصر
يارب ...مالنا ملجأ إلا إليك