23 يوليو فى هذه المرة هو الاحتفال بمرور ستين عاماً، فى بعض السنوات كانت الاحتفالات تصل إلى عنان السماء، وفى بعض السنوات كانت تخفت فلا نكاد نحس بها، ولكن هذا العام ربما لن يكون هناك احتفال على الإطلاق، فالرئيس قال كلمته الشهيرة: «وما أدراك ما الستينيات»، كان يخصص بها سنوات مصر السيئة «!» وقناة الإخوان قبل ذلك وضعت رؤساء مصر كالآتى: محمد نجيب، أنور السادات، حسنى مبارك، محمد مرسى.
ترجمة هذا أن الإخوان قرروا أن لهم ثأراً مع ثورة يوليو وأنه آن الأوان للانتقام الرهيب، ولا نظن أن هذا سيكون فى صالح الوطن، بل لا نظن أن ثورة يوليو من الممكن أن تخسر فى هذا الصراع، ثورة عرابى واجهت ما هو أقوى، ثورة 19 واجهت ما هو أقوى، والثورات لا تعيش بالاحتفالات، ولا تموت بالثأر.
وما أدراك و23 يوليو
كنا فى ندوة لا أذكر مكانها، ولا أظن أننى كنت آنئذ أعرف المكان، وفجأة وقف شاب لا يزيد عن العشرين عاماً بكثير، وقاطعنا بعنف وهاجم ثورة يوليو وجمال عبدالناصر هجوماً مقنعاً وتدخلنا الواحد بعد الآخر راجين وضع ضوابط للندوة ولكن بلا جدوى، وحاول أحدنا أن يقول إنه ليس علاقة بثورة يوليو ولا بجمال عبدالناصر ولكن الشاب لم يعطه فرصة.
غضب بعضنا وهدد بالانسحاب، وضحك بعضنا ورأى فيما يحدث شيئاً مسلياً.
وفجر الموقف قدرات الإبداع المصرية فأدخلها الشاب فى قصص خاصة بالثورة بعضها لا يمكن كتابته، ولكنها كلها لم تكن مقنعة.
لم يكن فيما قال الشاب ثقافة فنتخيل أنه وصل إلى نتائج جعلته غاضباً، وفى التاريخ من الصعب أن نغضب، هناك أستاذ جليل أفنى عمره فى كشف يعقوب صنوع والهجوم عليه، لكنه بالطبع لا «يتنطط» مثل هذا الشاب.
وأعرب كثيرين ممن لهم مواقف مع شخصيات تاريخية أحدهم يكره أحمد شوقى وآخر يكره الخديو عباس، وثالث ضد يوسف وهبى، و.... ولكن أحداً من هؤلاء لا يخرج فى ندوة ويمنع المشاركين فيها من الكلام ولا يأبه لتدخل المنظمين للندوة.
وطلبت أن أجلس مع الشاب بعد الندوة ليس لكى أناقشه أو أغير رأيه، بل كى أفهم لماذا حول الموقف السياسى إلى موقف شخصى، ولكن الشاب اختفى بعد الندوة.
هذه الحادثة تبدو لى الآن عادية لكنها آنئذ لم تكن عادية واعتبرتها حادثة عابرة مثل حوادث الجنون فى الندوات، ففى إحدى الندوات قال أحدهم: نريد رجلا يفعل كذا، فقام شاب يتهمه بتهميش دور المرأة، وحاول المتكلم توضيح أنه يقصد بكلمة «رجل» أى شخص يكون قادراً على الفعل.
ولكن الشاب تشنج وآزره بعض السيدات، وفى ندوة فى أحد النوادى الراقية جداً جاء ذكر أحمد حسنين باشا الذى جاء ذكره بألف سوء وألف خير من قبل فقام شاب مدافعاً عنه بهمجية أفسدت الجلسة.
ظننت فى هذا الوقت المبكر أن الحادثة عابرة، ولكن بعد فترة كنت فى ندوة فى «المطرية» التى كانت آنئذ بالنسبة لى قارة مجهولة، وكان بين الحاضرين الدكتور فلان الذى توسطنا بعد انتهاء الندوة وقال إن جمال عبدالناصر قال فى حديث لجريدة أمريكية هى كذا إنه بعد 67 ندم على تأميم القناة وعلى سياسته الاقتصادية وأنه عرض التنازل عن السلطة لبعض الساسة القدامى لكنهم رفضوا.
قلت له: يا دكتور ما تقوله مستحيل، فكل حديث لعبدالناصر معروف وموجود، وابتسم بثقة شديدة وقال: وهذا الحديث موجود عندى بالصحيفة، وأيضاً ترجمة له، ولما قلت له إننى أريد الاطلاع عليه حدد موعداً فى الأسبوع التالى فى نفس التوقيت ليطلعنا عليه.
وحسب الموعد ذهبت إلى المكان فلم أجد إلا الذين يترددون كل يوم عليه وانتظرنا الدكتور لكنه لم يأت، وأكد الجميع أنهم لا يعرفونه ولا يعرفون عنه شيئاً، ومنذ ذلك الحين أى منذ أكثر من عشرين عاماً، لم أره ولم أسمع اسمه ولم يذكر أحد قصته.
وبعد تكرار هذا السلوك مازال يدهشنى أن أرى شاباً يصرخ ضد ثورة يوليو، وفى بعض الأحيان نكتشف أنه لا مبرر لذلك، وفى أواخرها سألنى الشاب عما يقرأ ليعرف ثورة يوليو!
أدرك من هذا، ولا أظننى مخطئاً، أن هناك جهات تعمل بشدة على الحط من قدر ثورة يوليو بالتأكيد لأسباب فى هذه الثورة: مثلاً العدالة الاجتماعية وحرص عبدالناصر على مصلحة فقراء الوطن وإلى وقت قريب أرى من يسألنى بحزن لماذا يهاجمون عبدالناصر، وبالطبع هؤلاء لم يكونوا أعضاء فى الاتحاد الأشتراكى أو مسؤولين فى الدولة، أيضاً الاستقلال الوطنى المباع بعده للولايات المتحدة، وكرامة هذا البلد لقد فقدت الكلمة معناها.
الذى يتصور أن مصر من 1952 إلى 1970 كان جنة الله فى أرضه هو معتوه بلا شك.
وعندما قامت ثورة 52 كنت طالباً بالمدرسة ابتهجت مثل غيرى بالتغيير وسقوط الملك فاروق الذى كان يمثل نظاماً أسوأ من نظام مبارك بألف مرة، ومع ذلك فالكتاب الآن يشيرون إلى أن ثورة يوليو أنهت الديمقراطية. ديمقراطية إيه أيها الأعزاء؟!
لقد كان فاروق يلعب بالسلطة مثلما يلعب أطفال اليوم بالألعاب الإلكترونية، كان يكلف شخصاً لا يطيقه أحد بتأليف الوزارة، ثم يسقطها بعد أسابيع أو شهور هو ومزاجه.
وكان قد حصل من التعليم ما لا يزيد عن الإعدادية التى لم تكن موجودة فى زمانه، ومن أكثر الذين دافعوا عنه بعد إسقاطه وفى شجاعة محمودة اللواء بحرى جلال علوبة الذى كان يقود المحروسة وكان من أصدقاء فاروق الذين كانت صداقتهم للصداقة وما كان أندرهم.
ورغم دفاع علوبة عن ملكه وصديقه وآخر من صاحب إلى كابرى فى إيطاليا ذكر فى كتابه المغامرة الحمقاء لفاروق الذى سافر إلى قبرص ليلتقى بكاميليا، وبالطبع يكتب علوبة ذلك متأفقاً كما لو كان حادثاً أصابه.
وعندما سقط فاروق ابتهجنا - نحن التلاميذ - كما ذكرت ثم انقلب الابتهاج إلى قلق ثم إلى غضب.
كانت قضيتى الأولى فى التحول أننى ضد حكم العسكريين وهو ما أعلنته مرات كثيرة لكننى أتحفظ على «فوبيا» العسكر.
أذكر أننى كنت فيما يمكن تسميته مائدة مستديرة عن الثقافة فإذ بالحاضرين يهاجمون العسكر، لأنهم أفسدوا الثقافة، وأحسست أننى لو قلت شيئاً مختلفاً فسأكون مركزاً لهجومهم جميعاً.
سألت كبيرهم بصوت خفيف: وما رأيك فى ثروت عكاشة كوزير للثقافة، قال بصوت عال: هذا هو الاستثناء الذى لا يقاس عليه. طيب ومحمود سامى البارودى رب السيف والقلم، وقلب شفتيه. سألت أيضاً: وأحمد حمروش كمدير للمسرح القومى ثم لهيئة المسرح. طيب وآمال المرصفى كمدير للمسرح القومى؟ طيب وحافظ إبراهيم كشاعر، وعندما قال أحدهم إن ما يقصده هو الحكم، قلت له: شارل ديجول!
هى قضية من المخجل مناقشتها، فنحن لا نناقش خلفية من نتحدث عنه، بل ما يفعل واحد أعظم كتاب فرنسا كان قائداً.
كما قلت كان تحولى فى بداية الصبا أننى كنت ضد حكم العسكريين، ومازلت لكننى لست مع «يسقط يسقط حكم العسكر» ربما لأننى رأيت فى الخارج شابة مصرية شاركت فى نفس الفاعلية تلبس «تى شيرت» مكتوبا عليه «يسقط يسقط حكم العسكر» وتساءلت من تخاطب؟ لو أنها لبسته فى التحرير لكان له معنى، أما هنا فلا معنى له.
وفى نهاية الستينيات كنت ضد هذا النظام، كان نظاماً وطنياً طموحاً لكننى كنت أكثر طموحاً فضلاً عن قضية الديمقراطية، كنت أقرأ تجربة «بركليس» بل أكتب عنها ولم أكن أعرف أنها تجربة لا تتكرر.
ومازلت أعانى من قضية الديمقراطية وأؤمن بها جداً، وأرى أنها النظام الوحيد الواجب تنفيذه، ومع ذلك أدرك أنه لا يفرز الأفضل إلا فيما ندر.
ولا يقلقنى أن تكون الديمقراطية مخيبة للآمال أحياناً فهى النظام الأمثل، وفى بعض المرات التى كان صوتى يرجح الأغلبية فى المهرجانات مثلاً لم أستخدمه إطلاقاً.
ويسألنى أحدهم لماذا انحزت بعد ذلك إلى ثورة يوليو؟ أقول له مازحاً: بضدها تعرف الأشياء، لكننى أتذكر أيضاً عندما بدأت أسافر منذ السبعينيات فأرى صور عبدالناصر فى شرفات بيوت أحد بلاد الخليج، ويحكى لى بفخر مواطن بلد آخر أن عبدالناصر زارهم واكتشف أن طائرة عبدالناصر توقفت فى المطار للتزود بالوقود، وفى قبرص يشترى الأولاد وأنا ملابس ويرفض صاحب المحل أن يأخذ ثمنها لأننا من بلاد ناصر، وفى اليونان ألتقى فى الفندق بيونانى كان يعيش فى الإسكندرية يقول لى إنه لم يتح له أن يقابل عبدالناصر أبداً، لكنه اضطر أن يحكى لأهله وجيرانه عنه حتى يكسب تقديرهم، ويونانى آخر قابلته فى الدوحة وهو أحد مديرى سلسلة فنادق كبرى ليقول لى إنه يملك مقبرة فى الإسماعيلية أوصى أن يدفن بها.
ولكنها كانت إحدى المرات النادرة التى تطابقت فيها مصر والسلطة، فى عهد محمد على بانى مصر الحديثة امتلك كل أراضيها، وأصدر أمراً بعدم ضرب أولاد البلد - أى من ليسو أتراكاً أو أوروبيين - بالكرباج والاكتفاء بضربهم بالمركوب «الحذاء»! ومحمد توفيق عندما ثار أحمد عرابى وزملاؤه وقرروا أن يحكموا البلاد حسب القواعد الحديثة استجار توفيق خديو مصر بالدولة العثمانية وبالإنجليز حيث بدأ احتلال ناضل ضده مصطفى كامل وثار ضده سعد زغلول، وأنهاه جمال عبدالناصر.
وقد أتيح لى أن أعرف بعض ما فعله عبدالناصر من أجل إنهاء الاحتلال الذى كان قد تجاوز السبعين عاماً، المصدر الأول هو صديق العمر سعد زغلول فؤاد الذى كان من أهم مناضلى العالم، قال لى إنه بعد قيام ثورة يوليو أعطوه النور الأخضر لأى تحرك فى منطقة القنال التى كانت مكاناً لنشاطه، فلقد كان فى المنطقة نحو ثمانين ألف جندى بريطانى مع أحدث الأسلحة.
وحكى سعد زغلول فؤاد الكثير وبعضه نشره فى كتب، ومن أطرفها قصة الضابط الذى اختطفه ثم اكتشف بعد ذلك أنه من أقارب ملكة بريطانيا وحدثت أزمة هائلة.
والطرف الآخر الذى حكى ما حدث هو اللواء الباجورى الذى كان مديرا لأمن العاصمة وهو المنصب التالى لوزير الداخلية، وحكى عن هذه التجربة، ومما حكى أن جمال عبدالناصر - الذى كان آئنذ وزيرا للداخلية - صرف لضباط فى القناة ثلاثة آلاف جنيه من خزينة الوزارة لإشعال المقاومة فى منطقة القناة وهو ما حدث فعلاً، وكان هذا المبلغ من الحسابات السرية للوزارة، وكان اللواء الباجورى - ولقد عرفته لأسابيع قرأت فيها مذكراته وناقشته فيها - يبدو من المتطهرين وكما قال: جمال عبدالناصر وزير يأمر بصرف أى مبلغ لكنهم سيأتون لى أنا! وما حدث بعد ذلك أقرب إلى قصص تشيكوف، الرجل يريد أن يفنى نفسه وعبدالناصر يعده بإجراء رسمى سريع، ودخل عبدالناصر المستشفى لإجراء عملية الزائدة الدودية وكانت من العمليات الكبرى آئنذاك. وزارة الباجورى - على ما حكاه - ومعه باقة كبيرة من الورد ودعا له بالشفاء العاجل، وقال إنه كلنا بين أيدى الله «وها أنت يا معالى الوزير لا تعرف هل ستخرج أم لا!» وصاح عبدالناصر رغم حالته الصحية ينادى من أتى له بورقة كتب فيها إنه استلم المبلغ شخصياً!
لا أقصد طرافة الحادثة بقدر ما أقصد أنه كانت هناك محاولات لإثارة القلاقل فى القناة شارك فيها بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة وهيئات للمفاوضات فيما بعد، وكانت المفاوضات تجرى كل عدة سنوات منذ سعد زغلول وشارك فيها معظم زعماء ورؤساء مصر وفشلوا فى زحزحة بريطانيا حتى كانت مفاوضات عبدالناصر.
كان السؤال الذى تردد طوال الأسبوعين الأخيرين:
هل يحدث احتفال بثورة يوليو؟! يقول معظم أصدقائنا إن القتال بين فصيل وطنى وآخر أصبح بعيد الاحتمال، وإن الإخوان قد لا يحتفلون بثورة يوليو، ولكنهم سيتركون غيرهم يحتفل ولكن بعض أصدقائنا يرون أنه ستمنع الاحتفالات هذا العام وربما الأعوام القادمة.
مثلى ومثلك علينا أن ننتظر!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصريون من طين الارض
كيف نحتفل بيوليو ؟؟
عدد الردود 0
بواسطة:
مصـــــــــــــرى
المجانيه المزعومه
عدد الردود 0
بواسطة:
أيــــــــــــــــــوب
%99.99
%99.99 هى الانجاز الوحيد لديكتاتور يوليو الاســود
عدد الردود 0
بواسطة:
السيتينيات فضلها على كل اللى علقوا قبلى
لا يقرأون لا يفهمون هم فقط يهاجمون
عدد الردود 0
بواسطة:
ستناي احمد
الاصل والاساس في اصلاح الانسان
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري
لوجة الله والوطن
عدد الردود 0
بواسطة:
صلعاوى الجن
ايجابيات وسلبيات
خفيهة ايجبياته وسلبياته