يخرج فى هذه الأيام المباركة من شهر رمضان الأخ أحمد عبدالقادر المحكوم عليه بالإعدام فى التسعينيات من السجن إلى الحرية.. ومن الزنزانة إلى المنزل.. ومن القيد والضيق إلى السعة بعد قرار الرئيس د. مرسى بالإفراج عن 400 سجين منهم أحمد عبدالقادر.
قابلته أول مرة حينما ذهبت مع قادة الجماعة الإسلامية إلى سجن العقرب أثناء محاضرات المبادرة التى حقنت الدماء وأوقفت المواجهة المسلحة بين الجماعة الإسلامية والشرطة.
كان يجلس فى أول الصفوف فى المحاضرات.. شدتنى إليه شياكته الشديدة وهو يرتدى ملابس الإعدام الحمراء وينظر إلينا من خلف نظارة جميلة رائعة متناسقة مع وجهه الأسمر ذى التقاطيع الجميلة.. توقعت من أول مرة التقيته فيها أنه شخصية جيدة وصدقت الأيام توقعاتى.. كان يهتم بـ«شياكته» ويختار ملابس الإعدام الحمراء بطريقة جميلة متناسقة رغم أن سيف الإعدام فوق رأسه وحبل المشنقة يداعب خياله بين الحين والآخر.. فقد كان يبتسم دائما ويلعب كرة القدم والتنس ويضحك باستمرار.. لا يعير هذا الحكم التفاتا.. هكذا قلت لنفسى.
وبعدها تقابلنا كثيرا.. وتحاببنا.. وجدته ودودا أليفا رضع الحنان من أمه الحنون.. له شخصيتان مختلفتان.. كان فى وقت المحنة وإغلاق الزنازين والضرب والإهانة عنيفا غليظا مع الضباط والجنود والشاوشية.. وكأنه يريهم ثباته وقوته ورجولته فى وقت المحنة.. حتى إذا جاءت السعة انقلبت شدته إلى حنان وعطف ورفق ومودة وطيبة قلب وتراحم وتغافر مع الجميع، وفيهم الضباط والشاوشية والإخوة والجنائيون.
كان الجميع يعلم براءة أحمد عبدالقادر وأنه لم يقتل الضابط الذى اتهم بقتله.. فقد قتل هذا الضابط بطلقة خرطوش من جندى أمن مركزى فى الوقت الذى كان فيه الضابط يتحدث مع أحمد أمام المسجد فى السويس.
كان أحمد أحد أمهر لاعبى تنس الطاولة فى السجون المصرية كلها.. وأصغر المحكوم عليهم بالإعدام سنا، وأكثرهم إقبالا على الحياة وانفتاحا عليها وعلى الناس.
تراه وهو يهزم الآخرين من إخوة وضباط وأمناء والجنائيين فى لعبة التنس فلا يخيل إليك لحظة أن هذا الشاب محكوم عليه بالإعدام منذ عدة سنوات.. فهو يمضى يومه كأى إنسان آخر.. بل إنه تزوج فى السجن منذ عدة سنوات وأنجب بنتا فى سابقة لم تحدث من قبل فى العالم كله تقريبا.
يحمل أحمد قلبا طيبا رقيقا رغم ما كان يبدو من ظاهره من شدة وأنفة، فهو متواضع يحب الناس جميعا.. قصته أغرب من الخيال فى كل شىء.
كانت والدته لا تناديه فى الزيارة إلا باسم التدليل الذى كانت تناديه به وهو صغير «حمادة».. فتقول له فى الزيارة أمام الجميع: «تعال يا حمادة فى حضنى».. فيأتى فى حضنها.. وتقول له: «أنا سامعة قلبك يا حمادة».. «وحشنى يا حمادة».. وكأنه ما زال طفلا صغيرا يحبو بين يديها.
هذه الأم لم تشك يوما فى براءته ونجاته.. وقد صدق القدر الحكيم حدسها وشعورها بكرمه وفضله.. والآن قرب موعد النجاة والوصول إلى البيت.
إذا رأيت الأخ أحمد عبدالقادر وهو يلعب كرة القدم مع إخوانه فى المعتقل.. وهو يقطع الملعب جيئة وذهابا.. ولا يترك مباراة إلا ويشارك فيها.. خاصة عندما كان الخروج للملعب يوما بعد يوم.. إذا رأيته خيل إليك أنه لا يحمل فى نفسه هما ولا غما على الإطلاق.. أما إذا رأيته وهو يرتدى أبهى وأجمل ملابس فى المعتقل كله تصورت مدى الرضا النفسى الذى يعيش فيه.. حتى فى أوقات الشدة التى مرت على سجن العقرب.
كان الأخ أحمد يهتم بمظهره ويلبس حلة الإعدام الحمراء الأنيقة فتراه مختلفا عن الآخرين الذين لا يهتمون بمظهر هذه الحلة الحمراء التى تدعو للتشاؤم.. وقد تدعو إلى الإحباط واليأس والعياذ بالله.
ولعل البعض يعجب من هذا الرجل.. فقد دخل السجن وهو حاصل على دبلوم متوسط.. فإذا به لا يرضى لنفسه هذا المستوى التعليمى المتواضع.. فينتسب للمرحلة الثانوية العامة.. ثم يحصل على الشهادة الثانوية بمجموع يؤهله للالتحاق بكلية الحقوق جامعة القاهرة.. ثم إذا به يحصل على ليسانس الحقوق.. وكأنه طالب منتظم فى صفوف الطلاب العاديين.
كان يحضر محاضرات المبادرة بين المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن.. وكان الفريق الأول يلبس حلة حمراء.. والفريق الآخر يلبس حلة زرقاء.. وكنت أداعبهم فى المحاضرات.. فأسمى أصحاب الحلة الحمراء بالجن الأحمر.. وأصحاب الحلة الزرقاء بالجن الأزرق.. وذلك من باب الفكاهة وإدخال السرور على الحاضرين.
أحمد عبدالقادر يعد نموذجا للرضا عن الله.. والرضا عن قدر الله.. وعدم التسخط بأقدار الله مهما كانت.
لقد أحببته أن أقدمه اليوم للجميع.. أقدمه للمؤمنين ليزدادوا إيمانا.. وأقدمه للذين حازوا الدنيا كلها ورغم ذلك هم ساخطون على الله سبحانه.. وغير راضين عن قدر الله.. أقدمه للذين يجزعون من أقل المصائب.. وينهارون عند أدنى المشكلات.. وييأسون من رحمة الله عندما تقل خزائنهم جنيها.. أو تقل مناصبهم رتبة.. أو تصيبهم وخزة إبرة.. تهنئة قلبية لأحمد وإخوانه بالعافية والفرج.. وعقبال الباقين.