الصوم إمساك عن النقائص، والإمساك صفاء للباطن وطهارة للظاهر، والطهارة والصفاء هما الاستعداد لدخول حضرة الرب، حيث لا مكان ولا زمان، بل حضور ثم فناء، فلا موجود سوى الله العلى القدير، الرحمن الرحيم، الجمال والكمال والجلال، سبحان الله عما يصفون.
الصوم هو عبادة محبة، لأن المحب قد أدرك أنه لا يوجد أعظم، ولا أكرم، ولا أعز، ولا أكبر، ولا أرحم، ولا أعدل، ولا أجمل، ولا أكمل من الإله المحبوب الذى أوجده وأوجد الكون كله من عدم بالحكمة والعدل، وبالرحمة والقدرة. ولقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام «من عشق فعف ثم مات مات شهيدا»، وعشق العبد لربه يعنى أن القلب لم يعد فيه غير الله سبحانه وتعالى، والعاشق لايريد أن يدنس قلبه بوجود شىء غير محبوبه، فالله أولا والله أخيرا. الله هو كل شىء، وليس كمثله شىء، فالعشق فى حد ذاته هو شمس الروح وحياتها وغذاؤها، العشق هو سحاب ينثر الدرر، يجعل العين تبصر بما لا تراه العيون، فشمس النهار تغرب وشمس القلوب العاشقة لا تغيب، لأن المحبوب لا يغيب ولا يغرب.. إنه نور السماوات والأرض.
يكون الصائم المحب فى مناجاة دائمة، يرى محبوبه فى كل شىء، فالوجود كله الله، ولا موجود سواه، وكل ما يظهر فى الوجود هو من محض فضله، ومن تجليه المقدس لعباده. العبد الصائم عن كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى يقف على باب الرب، منشدا أناشيد الحب والطاعة، راجيا القبول من رب كريم يحب عباده، ويغدق عليهم من نعمه فى كل لحظة، وكل طرفة عين. قال الإمام على بن أبى طالب: «من أعطى الدعاء لم يحرم الإجابة» وهذا لأن الكريم الوهاب سبحانه وتعالى قال «ادعونى أستجب لكم». الله كريم ورسوله كريم، عليه الصلاة والسلام.
وفى الدعاء والمناجاة أنس وسجود بالقلب والروح، يتولد منه غبطة، والرغبة فى دخول حظيرة القدس والثمالة من أنوار الربوبية، ومن اعتاد الصوم بمعناه الشامل يكره الهبوط إلى ما هو دونه، فالذى يعتاد القرب يكره البعد، بل البعد بالنسبة له هو العذاب كله، ولذا فالوقت للمحب العاشق هو ثروة، بل كنز، لأنه يعنى المزيد من القرب والأمل فى نيل لفتة أو نظرة ينال بها المحب سعادة الدنيا والآخرة. ويقول الشيخ الأكبر ابن عربى عن صوم العارفين: هو صوم من تولاهم الله بالإمساك عن أنفسهم وجوارحهم وانتقلوا من بشريتهم إلى عقلهم، العقل المحض، حيث لا شهوة عندهم، وكمل نهارهم ففارقوا الإمساك والتحقوا بعالم الأمر.
ولقد نصح رسولنا الكريم العظيم صلى الله عليه وسلم الصائم أن يقول لمن أخطأ فى حقه «إنى صائم»، لأنه لايجوز أن يهبط العبد الصائم العاشق من كل هذا الكمال والجمال إلى الأرضية العمياء.