وائل السمرى يكتب: شيخ الأزهر الإمام مصطفى عبدالرازق.. فيلسوف الجمال فى رحاب الإسلام.. عمل على إصلاح الأزهر ورد على دعاوى المستشرقين وافتراءاتهم على الإسلام وكان يحب الفن ويحترمه
الجمعة، 10 أغسطس 2012 03:11 ص
شيخ الأزهر الإمام مصطفى عبدالرازق
بقلم وائل السمرى
قال: إن الذين يفكون العقول من أغلالها إنما يمهدون لها السبيل إلى الحق والدين من أسمى حقائق الوجود.
لم يهاجم أحدا سوى أصحاب المذهب الوهابى الذين يهدمون القباب الفنية ويكفرون الناس مشيرا إلى أنهم لا يتبعون دين الإسلام وإنما يتبعون «دين أهل نجد».
عمل على إصلاح الأزهر ورد على دعاوى المستشرقين وافتراءاتهم على الإسلام وكان يحب الفن ويحترمه وكتب عن توفيق الحكيم وأم كلثوم.
وكأنك تقرأ عن شخصية خيالية لا ترى لها أثرا إلا فى الروايات الحالمة بعالم ملؤه الحب والخير والفضيلة والحرية والجمال والحياة، عالم بلا تعصب أعمى يغرق الناس فى التشاحن والتناحر والتجاذب والتنافر، عالم يؤمن بالله مهيمنا على الكون برحمته وحكمته وعدالته وسموه، عالم فيه التعاليم الدينية من أجل إسعاد البشر، والحروب من أجل الدفاع عن كرامة البشر، والفن من أجل زرع السمو فى نفوس البشر، والعقل هاديا لتوافق البشر وتراحمهم، وكأنك تقرأ فى صفحة من ملحمة شعرية عن بطل ظهر فجأة واختفى فجأة لا لشىء إلا لكى يخبرك بأن كل ما تحلم به من الممكن أن يتحقق فى لحظة إذا ما صدق العزم وصحت النية وتنزه القصد من الهوى ليكون الله موجودا فى كل شىء، يحمينا ويرزقنا ويطعمنا ويسقينا.
أدعوك قبل أن تقرأ السطور القادمة عن الإمام «مصطفى عبدالرازق» أن تنسى تفاصيل هذه الأيام، وأن تنسى أولئك الذين يعدون أنفسهم أئمة ومشايخ، وأن تجنب نفسك كدر مقارنتهم بمن تقرأ عنه، لكى لا تظلمه أو تظلم نفسك وتحرمها من التأمل فى هذه الشخصية النادرة.
هو الشيخ مصطفى عبدالرازق «1885م - 1947م» شيخ الجامع الأزهر الشريف، ومجدد للفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث، وصاحب أول تاريخ لها بالعربية، الذى ما أن يمس شيئا من العلم حتى يحوله أيقونة جمالية ترتاح لها القلوب وتأنس لها الأرواح، سيرته المتداولة تقول إنه تولى وزارة الأوقاف، وكان أول أزهرى يتولاها، واختير شيخا للأزهر فى ديسمبر 1945، فتنازل عن لقب الباشوية الذى كان الملك قد أنعم عليه به، مفضلا أن يكون لقبه هو شيخ الأزهر وأن تكون نسبته إلى هذا الجامع الجامعة الذى صار جزءا من تاريخ مصر وحضارتها.
تقول سيرته أيضا إن مولده كان فى أسرة وطنية ثرية فى قرية أبوجرج بمحافظة المنيا، فكان والده من مؤسسى جريدة «الجريدة» التى دعت إلى الحكم الدستورى والإصلاح الاجتماعى والتعليم، وكذلك كان والده من مؤسسى «حزب الأمة»، حفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالأزهر، حيث التقى بالشيخ الإمام محمد عبده، وهناك حصل على شهادة العالمية سنة «1326هـ = 1908م»، ودرّس القضاء الشرعى فى الأزهر، ثم استقال.
كان أحد تلامذة الإمام محمد عبده وكان يراسله سرا وينشر رسائله دون توقيع الراسل لكى لا يصب الأزهريون جام غضبهم على الطالب اليافع، ومن الإمام تعلم حب الحياة وغرس فى نفسه حب المعرفة والتوق إلى التعلم والترحال والنهل من منابع المعرفة، فسافر إلى فرنسا ودرس فى جامعة «السوربون»، ثم جامعة ليون التى حاضر فيها فى أصول الشريعة الإسلامية، وحصل على شهادة الدكتوراه برسالة عن «الإمام الشافعى أكبر مشرعى الإسلام» ثم ترجم إلى الفرنسية «رسالة التوحيد» للإمام محمد عبده بالاشتراك مع «برنار ميشيل» وألفا معا كتابا بالفرنسية، لتتضاعف كتبه بعد على مدار حياته فيكتب دراسة صغيرة أدبية عن الشاعر المصرى البهاء زهير الذى عاش فى أيام الدولة الأيوبية، ثم كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» ثم كتاب «فى سيرة الكندى والفارابى» ثم كتاب «الإمام الشافعى»، ثم كتابه الدين والوحى والإسلام، ثم كتابه «فيلسوف العرب والمعلم الثانى» ثم كتابه «محمد عبده سيرته».
فى فرنسا درس علم الاجتماع على يد عالم الاجتماع الأشهر إميل دوركايم، ثم عمل مع الأستاذ «لامبير» فى كلية القانون فى ليون ودرس أصول الفقه فيها، ثم تم استدعاؤه ليعمل مدرسا للأدب العربى واللغة العربية، وبجانب هذا أعد رسالته للدكتوراه، وبعد عودته من فرنسا سنة 1915 عمل سكرتيرا بجامعة الأزهر ثم سكرتيرا عاما للمجلس الأعلى للأزهر، ليبدأ أول خطاه الإصلاحية فى الجامع الأزهر العتيق الذى كان وقتها يفتقد الكثير من أدوات العلم الحديث، لكن وبسبب مواقفه السياسية المناصرة للحركة الوطنية التى كان يقودها آنذاك سعد زغلول تم إبعاده من الأزهر خوفا من أفكاره السياسية والاجتماعية، وعين مفتشا بالمحاكم الشرعية كإجراء تأديبى، لكنه استثمر هذه الفترة فى الكتابة والبحث والترجمة، والمعرفة، فكان يعقد الندوات فى بيته ويتوافد عليه أهل العلم والثقافة والفقه والفلسفة من كل مكان، وبعد ذلك تم انتدابه إلى جامعة القاهرة ليشغل وظيفة مدرس الفلسفة الإسلامية وليزداد تبحرا فى الأدب واللغة ويزداد اطلاعا على المخطوطات المحفوظة بالجامعة وهو الشىء الذى كان له أكبر الأثر فى كتاباته اللاحقة.
كانت آراء المستشرقين فى هذه الآونة تجلد الحضارة الإسلامية وتدعى أنها حضارة فقيرة أخذت عمارتها من الأمم السابقة كما أخذت فلسفتها من اليونان لتبنى على وجهة النظر هذه نظرية تقول إن العرب لا يفكرون، وإنهم ليسوا أصحاب حضارة ليتم تبرير التوجه الاستعمارى بحجة أنه يرفع من شأن البلاد التى يحتلها المحتلون، وهو ما انتفض الإمام من أجله مدافعا عن حضارته ومنجزها الفكرى والفلسفى قائلا إن الفلسفة الإسلامية ليست تلك التى نجدها عند ابن سينا والفارابى، ولكنها تكمن فى منجز العرب المسلمين فى علم الكلام ومصادر فلسفة التشريع الإسلامى، وبذلك أسس ما عرف بعد ذلك بالفلسفة الإسلامية التى يدرسها العالم حتى الآن تحت هذا التعريف.
أثناء توليه مشيخة الأزهر عمل على إدخال بعض الإصلاحات إليه، فأدخل اللغات الأجنبية، وأرسل البعثات إلى الخارج، أما على المستوى الشخصى فقد كان الإمام محبوبا من معظم من يتعامل معهم، وكان محبا لتلاميذه عطوفا عليهم ينفق عليهم كل ما فى يده من أموال، وذات مرة قال له أحد تلامذته المقربين: لماذا تنفق كل هذه الأموال على الطلاب؟ فقال له مستنكرا: أتريد أن نتركهم على فقرهم واحتياجهم حتى يتركوا العلم؟ وهى كلمة تدل على كرم أخلاق الإمام وسعة صدره ورهافة حسه وإيمانه بدوره كشيخ وأب.
ربما إن كنت متعصبا تكسب طائفتك، لكن حتما إن كنت متسامحا فستكسب العالم كله، تلك هذه القاعدة التى يستنتجها المرء بعد قراءة سريعة فى سيرة الإمام ومسيرته، وهو الذى عاش حياته نابذا للتعصب من كل شكل ولون، داعيا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حالما بالعودة إلى منبع الدين الصافى وبساطته المعجزة فى أيام عهد النبوة حيث الإيمان يملأ القلوب والعدل يملأ الربوع، والنور يتوغل فى الأنحاء، والأمل يحدو الجميع، قبل أن يتفرق المسلمون إلى فرق ومذاهب ويتوهوا فى التفاصيل القاتلة والمسائل العبثية، ولأن مذهبه الإسلامى الإنسانى كان لا يرى فرقا بين العربى والأعجمى إلا بالتقوى كان يستهجن الدعاوى الأوروبية التى تدعى أن الجنس الأوروبى أرقى من بقية الأجناس، ورد على تلك الفكرة مرارا متحصنا بالأبحاث العلمية الحديثة، ذلك لأنه إن كانت الغلبة الآن للأوروبيين فقد كانت قديما للعرب ومن قبله للمصريين والعراقيين والفارسيين بما يعنى أن التفوق أمر نسبى زمنى لا علاقة له بالجنس وسموه.
فى الرد على المستشرقين - وأرجو ألا يستهين أحد بذلك الدور لما له من خطورة التمهيد للاستعمار - بذل الإمام جهدا كبيرا فى تعريف مفهوم الإسلام، فقد كان الأوروبيون يقولون إن الإسلام يعنى الاستسلام والطاعة العمياء، وهى المقدمة التى تنبنى عليها النتيجة التالية: إن كان دينك يدعوك إلى الطاعة والاستسلام فلماذا تقاوم؟ فتبنى الإمام هذه القضية ورد عليه فى بحث مطول أورد فيه رأى سيد أمير على الذى يقول فيه إن الإسلام يعنى تحرى الرشد وتزكية النفس، وذلك يعنى الطاعة الإرادية وليس الانقياد الأعمى، داحضا رأى «إدوارد رسل» بينما قال الإمام إن الإسلام يعنى الاستسلام حقا لكن لله فحسب، أى أنه يعنى «الإيمان» بالله وملائكته وكتبه ورسله والقضاء خيره وشره والبعث والحساب، وأن كلمة إسلام مشتقة من كلمة «سلم»، وهى تعنى التخلص من الشوائب والموبقات الظاهرة والباطنة التى «يسلم» المرء منها، كما تعنى الإذعان لله وحده لا شريك له وعدم الإذعان لغيره، وإكمالا لتلك القضية يتطرق الإمام إلى مسألة أخرى ألا وهى الفرق بين كلمة مسلم وكلمة مؤمن، إذ يرى الإمام أنه لا فرق بين اللفظين، فكلاهما يستعمله الله ويقصد بهما نفس الأشخاص الذى يؤدون نفس الأفعال، بل يرى أن الخوض فى هذا الأمر إنما هو من قبيل «تمحلات الفرق» وبناء على ذلك يقرر أن قضية الفرق بين اللفظين ما هى إلا قضية «مصطنعة اصطناعا»، فالدين عند الإمام يخاطب الروح والقلب ويقيم وزنا كبيرا للقلب الذى يأتى كثيرا بمعنى العقل أو الضمير، ويتجلى هذا فى الحديث الأشهر «إنما الأعمال بالنيات» والنية محلها القلب، لذلك فهو يرى أن العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقيام والحج لا ينظر الله إليها بحسب صورتها الظاهرة، وإنما يتنظر إلى القلوب المختبئة وراء العبادات، ومدى صفائها وصدقها وخشوعها، معتبرا أن الإيمان هو شرط صحة الأعمال، والإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل.
يتعرض الإمام إلى مشكلة علاقة الفلسفة بالدين وهى العلاقة التى شغلت أذهان الكثيرين وفيها وقعت مساجلات عديدة أشهرها ما دار بين الإمام أبوحامد الغزالى والفيلسوف ابن رشد، فيقول الإمام الكلمة الفصل فى هذا الشأن مرجحا أن الدين والفلسفة يبتغيان سعادة البشر، غير أن الدين يقوم على التصديق والإيمان ومصدره القلب، بينما الفلسفة تقوم على النظر والفكر ومصدرها العقل، لذلك فهما متفقان فى الغاية مختلفان فى الوسيلة، ولا يجوز أن نخلط بينهما ولا أن نفسر الدين بالفلسفة، وإنما يبغى أن ننظر إلى كليهما باستقلالية عن الآخر، وهو الرأى الذى يتشابه مع رأى الإمام أبى حامد الغزالى، لكن الإمام يرفض فكرة أن تكون الفلسفة خادمة للدين لأن ذلك يضر بالفلسفة والدين على حد سواء، فضرره بالدين يتلخص فى أنه يعكر صفو العقائد المقدسة ويجعلها قابلة للأخذ والرد والمناقشات العقلية المتناقضة، كما أن الفلسفة تكتسب بالأدلة بعيدا عن المشاعر القلبية التى تميز الوصول إلى حقائق الدين التى تملأ قلوب المؤمنين، أما الضرر الواقع على الفلسفة من خلطها بالدين فهو أنه يكسبها قدسية ليست بها، ويحدد نتائجها قبل إجراء مباحثها، وذلك يحد من حرية البحث ويحصنها من النقد، وهو ما لا يجب.
لا يعنى هذا أن الإمام يغفل دور العقل فى الدين، بل على العكس فإنه يعليه ويعتبره «صديق النقل» إذ لا إيمان إلا للعاقلين، ولا حساب ولا عقاب إلا لمن يستفتون عقولهم فتفتيهم، ويرى الإمام أن الإسلام جمع بين الدين والشريعة، قائلا «أما الدين فقد استوفاه الله كله فى كتابه الكريم ولم يكل الناس إلى عقولهم فى شىء منه، وأما الشريعة فقد استوفى أصولها وترك للاجتهاد تفاصيلها» ولع هذا الاقتباس يبرز رأى الشيخ فى مسألة الاجتهاد الذى يرى أنه ضرورة وواجب على كل الأئمة فى كل العصور، رافضا مبدأ غلق باب الاجتهاد مثل أغلب مصلحى عصره وعلمائه، ومؤكدا على تدعيم الإسلام للحرية الفكرية قائلا: قد تنبهت العقول وزالت غشاوة الغفلة عن بصائر الناس، ففهموا أن الدين ليس غلا للقلوب ولا قيدا على الأفكار، لكنه كما كان الإمام محمد عبده يقول قد كفل للإنسان أمرين عظيمين وهما استقلال الإرادة واستقلال الرأى والفكر، وبهما تكتمل إنسانية الإنسان ويستعد أن يبلغ السعادة، ويؤكد الإمام أنه لا خطر على العقل الواعى من الشتت والزيغ، وذلك لأن البشر صنفان مخلص ومغرض، من أخلص لله فسيخلص له فى كل الأحوال حتى لو أعمل عقله، ومن دخل الهوى قلبه فسيميل نحو أغراضه فى كل شىء حتى لو ادعى أنه لا يعمل إلا بالنقل، قائلا كلمته الشهيرة فى هذا الأمر «إن الذين يفكون العقول من أغلالها إنما يمهدون لها السبيل إلى الحق والدين من أسمى حقائق الوجود».
ومن خلال هذا المنهج الربانى النورانى الإصلاحى حارب الإمام الكثير من العادات الاجتماعية الخاطئة التى تأخذ صبغة دينية والدين منها برىء، ومن تلك العادات عادة تقبيل أيادى العلماء كمظهر لاحترامهم، قائلا إن الذين يمدون أيديهم الطويلة إلى الأفواه لينشروا جراثيم المرض يبذرون معها بذور الذلة فى الأنفس الطيبة، موضحا أن الدين ينمى علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وإخوانه من أفراد الإنسانية لذلك فهو وثيق الصلة بالحياة يواكب تطورها ولا ينغلق على نفسه ليظل دائما محافظا على المجتمع وواصلا للعباد بإلاههم الواحد، قائلا «فالدين ملازم للحياة من يضع دستورها ويجد فيه الإنسان الزاد فى حياته والنور الذى يهديه إلى الطرية المستقيم»، بل إنه يجزم بالقول إنه من غير الممكن أن يعرف الواحد أمزجة الشعوب الشرقية الإسلامية إلا من خلال الدين.
وأكثر ما يخاف الإمام على الأمة منه هو ضعف الشعور الدينى وضعف الشعور الوطنى، موضحا أن الدين الصحيح لا يعارض التقدم فى المظاهر الاجتماعية الحديثة من حضارة وعمران، ويذم آراء المتشدين الذى يصورن أن الدين هو الابتعاد عن الحضارة والمدنية، منزها الدين عن أن يكون عائقا أمام تقدم المسلمين، غير غافل أنه يتوجب على المسلمين ألا ينسوا مبادئهم وهويتهم الدينية أمام التقدم العلمى والمدنى والحضارى، داعيا إلى التمسك بأصالة القديم واحترامه وفى ذات الوقت أن ننهل من الجديد وتقدمه.
ويمضى الإمام فى كل كتاباته وتأملاته الإسلامية والفكرية متسامحا ومتصالحا لا يبتغى شيئا سوى نهضة المسلمين ورفعتهم، ولم أره مهاجما أحدا من المختلفين عنه إلا فى حالة واحدة هاجم فيها الشيخ أصحاب النزعة الوهابية المتشددة، بل إنه غالى فى الهجوم عليهم وفق منظوره المتسامح وأطلق على مذهبهم اسم «دين أهل نجد» فى إشارته منه إلى أن الدين الإسلامى لا يتضمن كل هذا التشدد، ومعلنا ضيقه بدعاوى التكفير التى أخذت فى الانتشار بعدما جاء «هذا الدين» فيقول الإمام: «ولقد نبرأ بدين هيئة كبار العلماء الذى يدفع بالكفر كل نزوع إلى العلم والفهم والذوق، فلما جاءنا دين أهل نجد يهدم على من فيها قبابا قد تكون آثارا فنية وتاريخية، يعرف خطرها «أى أهميتها» أهل الفن والتاريخ» قائلا فى النهاية إن الدين برىء من مثل هذه الدعاوة وإنما يشوه الدين أولئك الذين يريدون كيدا وتضليلا وقيدا للعقول والقلوب ثقيلا، ثم شن الإمام حملة على أولئك الذى يضيقون النظر فى الدين ويملأون الدنيا بفهمهم الخاطئ للإسلام وهم فى الحقيقة لا يراعون شيئا قدر مراعاتهم لشهواتهم ورغباتهم فتراهم تحت شعار الدين يكثرون من الزواج والطلاق ويبالغون فى الاحتفاء بالمأكل والمشرب.
على الجانب الآخر حارب الإمام البدع والتخاريف التى انتشرت فى مصر وقتها، فعارض الغلو فى الاعتقاد بكرامات الأولياء، قائلا إن الإسلام لا يقر واسطة بين العبد وربه، كما حارب من يستهينون بالشعائر المقدسة فى رمضان ويظنون أنهم بإطعامهم بضعة مساكين فقد حازوا الشرف كله، ولا ينسى الإمام أن يلوم علماء الأمة الإسلامية الذين تمسكوا بالمظهر وتركوا الجوهر فيستنكر أن يفتى الشيوخ بجواز لبس القبعة من عدمه بينما هم يختلفون فى تحديد كيفية رؤية هلال رمضان!
وضربا للتقاليد البالية والانغلاق المميت يقر الإمام حق الأمم فى أن يكون لها أعياد قومية تنمى الشعور الوطنى لأن حب الوطن من الإيمان، خلافا لمن يدعون أنه لابد من الاقتصار على الأعياد الدينية فقط، كما يقر الإمام أيضا مطالب المرأة بالحرية والعمل قائلا إنه يتوجب علينا أن نأخذ بالتدرج فى هذا الشأن، لأن المرأة حديثة عهد بالتعليم والخروج إلى الحياة العامة كما يرجو أن تعمل المرأة فى الأمور الخيرية التى يتغافل عنها الرجل لتتكامل وظيفة المرأة مع الرجل وتتحقق الفائدة للمجتمع، كما ينتصر الإمام للبسطاء والفلاحين والضعفاء، مؤكدا أن الفلاح المصرى أكثر الناس عناء فى السعى إلى تحصيل العيش وأقلهم متاعا وأضيقهم، كما دعا الإمام إلى الالتزام بدولة القانون، وأن يمارس الحاكم سلطاته بناء على صلاحيات محددة سلفا وليس بناء على صلاحيات مطلقة.
ولعل أكثر مواقف الإمام تحضرا هو موقفه من الفن الجاد المثمر الممتع فقد كان شغوفا بالفن والموسيقى والشعر والمسرح، وكان يقول عنه إنه يفيد الإنسان فى البحث عن قيم الحياة، لأنه إحساس نابض فى الوجود من قيم جمالية يعمل الفنان على إبرازها، ويؤكد أن الذين يتوهمون أن الدين يعارض الفن يدلون على أنهم يسيئون فهم طبيعة الدين وطبيعة الفن، وهو ما تدل عليه فنون الدول الإسلامية صاحبة الحضارات الكبرى كالدولة العباسية والأموية والفاطمية ودولة الإسلام فى الأندلس، فيقول إن المسلمون الأوائل أدركوا علة تحريم بعض الفنون كالأمر مثلا بعد الرسم أو النحت خشية أن يرتد الناس إلى عبادة الأصنام، فلما زالت العلة وزال الخوف من عبادة الأصنام زال التحريم، وبناء على هذا التوجه المستنير ترى الإمام يجاهر بإعجابه بأغانى أم كلثوم والقصائد الشعرية التى تغنيها فتنمى الذوق وتكسر الغربة بين العامة واللغة العربية الهادفة بل تجده يعتبر صوتها «نعمة من نعم الدنيا»، كما تجده يجتهد فى تحقيق ديوان الشاعر المصرى البهاء زهير لما وجد فيه من خلق قويم ولغة شفافة صادقة، وحب الخير وشرف للنفس وعزة وإباء، بل تجده يكتب عن مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم وهو مازال مغمورا فيكون أول من كتب عن هذه المسرحية التى تلهب الخيال وتستلهم القصص القرآنى ليكون الدين وقصص وتعاليمه شريكا للناس فى حياتهم يندرجون تحت لوائه بحب وارتياح وإيمان وخشوع.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قال: إن الذين يفكون العقول من أغلالها إنما يمهدون لها السبيل إلى الحق والدين من أسمى حقائق الوجود.
لم يهاجم أحدا سوى أصحاب المذهب الوهابى الذين يهدمون القباب الفنية ويكفرون الناس مشيرا إلى أنهم لا يتبعون دين الإسلام وإنما يتبعون «دين أهل نجد».
عمل على إصلاح الأزهر ورد على دعاوى المستشرقين وافتراءاتهم على الإسلام وكان يحب الفن ويحترمه وكتب عن توفيق الحكيم وأم كلثوم.
وكأنك تقرأ عن شخصية خيالية لا ترى لها أثرا إلا فى الروايات الحالمة بعالم ملؤه الحب والخير والفضيلة والحرية والجمال والحياة، عالم بلا تعصب أعمى يغرق الناس فى التشاحن والتناحر والتجاذب والتنافر، عالم يؤمن بالله مهيمنا على الكون برحمته وحكمته وعدالته وسموه، عالم فيه التعاليم الدينية من أجل إسعاد البشر، والحروب من أجل الدفاع عن كرامة البشر، والفن من أجل زرع السمو فى نفوس البشر، والعقل هاديا لتوافق البشر وتراحمهم، وكأنك تقرأ فى صفحة من ملحمة شعرية عن بطل ظهر فجأة واختفى فجأة لا لشىء إلا لكى يخبرك بأن كل ما تحلم به من الممكن أن يتحقق فى لحظة إذا ما صدق العزم وصحت النية وتنزه القصد من الهوى ليكون الله موجودا فى كل شىء، يحمينا ويرزقنا ويطعمنا ويسقينا.
أدعوك قبل أن تقرأ السطور القادمة عن الإمام «مصطفى عبدالرازق» أن تنسى تفاصيل هذه الأيام، وأن تنسى أولئك الذين يعدون أنفسهم أئمة ومشايخ، وأن تجنب نفسك كدر مقارنتهم بمن تقرأ عنه، لكى لا تظلمه أو تظلم نفسك وتحرمها من التأمل فى هذه الشخصية النادرة.
هو الشيخ مصطفى عبدالرازق «1885م - 1947م» شيخ الجامع الأزهر الشريف، ومجدد للفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث، وصاحب أول تاريخ لها بالعربية، الذى ما أن يمس شيئا من العلم حتى يحوله أيقونة جمالية ترتاح لها القلوب وتأنس لها الأرواح، سيرته المتداولة تقول إنه تولى وزارة الأوقاف، وكان أول أزهرى يتولاها، واختير شيخا للأزهر فى ديسمبر 1945، فتنازل عن لقب الباشوية الذى كان الملك قد أنعم عليه به، مفضلا أن يكون لقبه هو شيخ الأزهر وأن تكون نسبته إلى هذا الجامع الجامعة الذى صار جزءا من تاريخ مصر وحضارتها.
تقول سيرته أيضا إن مولده كان فى أسرة وطنية ثرية فى قرية أبوجرج بمحافظة المنيا، فكان والده من مؤسسى جريدة «الجريدة» التى دعت إلى الحكم الدستورى والإصلاح الاجتماعى والتعليم، وكذلك كان والده من مؤسسى «حزب الأمة»، حفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالأزهر، حيث التقى بالشيخ الإمام محمد عبده، وهناك حصل على شهادة العالمية سنة «1326هـ = 1908م»، ودرّس القضاء الشرعى فى الأزهر، ثم استقال.
كان أحد تلامذة الإمام محمد عبده وكان يراسله سرا وينشر رسائله دون توقيع الراسل لكى لا يصب الأزهريون جام غضبهم على الطالب اليافع، ومن الإمام تعلم حب الحياة وغرس فى نفسه حب المعرفة والتوق إلى التعلم والترحال والنهل من منابع المعرفة، فسافر إلى فرنسا ودرس فى جامعة «السوربون»، ثم جامعة ليون التى حاضر فيها فى أصول الشريعة الإسلامية، وحصل على شهادة الدكتوراه برسالة عن «الإمام الشافعى أكبر مشرعى الإسلام» ثم ترجم إلى الفرنسية «رسالة التوحيد» للإمام محمد عبده بالاشتراك مع «برنار ميشيل» وألفا معا كتابا بالفرنسية، لتتضاعف كتبه بعد على مدار حياته فيكتب دراسة صغيرة أدبية عن الشاعر المصرى البهاء زهير الذى عاش فى أيام الدولة الأيوبية، ثم كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» ثم كتاب «فى سيرة الكندى والفارابى» ثم كتاب «الإمام الشافعى»، ثم كتابه الدين والوحى والإسلام، ثم كتابه «فيلسوف العرب والمعلم الثانى» ثم كتابه «محمد عبده سيرته».
فى فرنسا درس علم الاجتماع على يد عالم الاجتماع الأشهر إميل دوركايم، ثم عمل مع الأستاذ «لامبير» فى كلية القانون فى ليون ودرس أصول الفقه فيها، ثم تم استدعاؤه ليعمل مدرسا للأدب العربى واللغة العربية، وبجانب هذا أعد رسالته للدكتوراه، وبعد عودته من فرنسا سنة 1915 عمل سكرتيرا بجامعة الأزهر ثم سكرتيرا عاما للمجلس الأعلى للأزهر، ليبدأ أول خطاه الإصلاحية فى الجامع الأزهر العتيق الذى كان وقتها يفتقد الكثير من أدوات العلم الحديث، لكن وبسبب مواقفه السياسية المناصرة للحركة الوطنية التى كان يقودها آنذاك سعد زغلول تم إبعاده من الأزهر خوفا من أفكاره السياسية والاجتماعية، وعين مفتشا بالمحاكم الشرعية كإجراء تأديبى، لكنه استثمر هذه الفترة فى الكتابة والبحث والترجمة، والمعرفة، فكان يعقد الندوات فى بيته ويتوافد عليه أهل العلم والثقافة والفقه والفلسفة من كل مكان، وبعد ذلك تم انتدابه إلى جامعة القاهرة ليشغل وظيفة مدرس الفلسفة الإسلامية وليزداد تبحرا فى الأدب واللغة ويزداد اطلاعا على المخطوطات المحفوظة بالجامعة وهو الشىء الذى كان له أكبر الأثر فى كتاباته اللاحقة.
كانت آراء المستشرقين فى هذه الآونة تجلد الحضارة الإسلامية وتدعى أنها حضارة فقيرة أخذت عمارتها من الأمم السابقة كما أخذت فلسفتها من اليونان لتبنى على وجهة النظر هذه نظرية تقول إن العرب لا يفكرون، وإنهم ليسوا أصحاب حضارة ليتم تبرير التوجه الاستعمارى بحجة أنه يرفع من شأن البلاد التى يحتلها المحتلون، وهو ما انتفض الإمام من أجله مدافعا عن حضارته ومنجزها الفكرى والفلسفى قائلا إن الفلسفة الإسلامية ليست تلك التى نجدها عند ابن سينا والفارابى، ولكنها تكمن فى منجز العرب المسلمين فى علم الكلام ومصادر فلسفة التشريع الإسلامى، وبذلك أسس ما عرف بعد ذلك بالفلسفة الإسلامية التى يدرسها العالم حتى الآن تحت هذا التعريف.
أثناء توليه مشيخة الأزهر عمل على إدخال بعض الإصلاحات إليه، فأدخل اللغات الأجنبية، وأرسل البعثات إلى الخارج، أما على المستوى الشخصى فقد كان الإمام محبوبا من معظم من يتعامل معهم، وكان محبا لتلاميذه عطوفا عليهم ينفق عليهم كل ما فى يده من أموال، وذات مرة قال له أحد تلامذته المقربين: لماذا تنفق كل هذه الأموال على الطلاب؟ فقال له مستنكرا: أتريد أن نتركهم على فقرهم واحتياجهم حتى يتركوا العلم؟ وهى كلمة تدل على كرم أخلاق الإمام وسعة صدره ورهافة حسه وإيمانه بدوره كشيخ وأب.
ربما إن كنت متعصبا تكسب طائفتك، لكن حتما إن كنت متسامحا فستكسب العالم كله، تلك هذه القاعدة التى يستنتجها المرء بعد قراءة سريعة فى سيرة الإمام ومسيرته، وهو الذى عاش حياته نابذا للتعصب من كل شكل ولون، داعيا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حالما بالعودة إلى منبع الدين الصافى وبساطته المعجزة فى أيام عهد النبوة حيث الإيمان يملأ القلوب والعدل يملأ الربوع، والنور يتوغل فى الأنحاء، والأمل يحدو الجميع، قبل أن يتفرق المسلمون إلى فرق ومذاهب ويتوهوا فى التفاصيل القاتلة والمسائل العبثية، ولأن مذهبه الإسلامى الإنسانى كان لا يرى فرقا بين العربى والأعجمى إلا بالتقوى كان يستهجن الدعاوى الأوروبية التى تدعى أن الجنس الأوروبى أرقى من بقية الأجناس، ورد على تلك الفكرة مرارا متحصنا بالأبحاث العلمية الحديثة، ذلك لأنه إن كانت الغلبة الآن للأوروبيين فقد كانت قديما للعرب ومن قبله للمصريين والعراقيين والفارسيين بما يعنى أن التفوق أمر نسبى زمنى لا علاقة له بالجنس وسموه.
فى الرد على المستشرقين - وأرجو ألا يستهين أحد بذلك الدور لما له من خطورة التمهيد للاستعمار - بذل الإمام جهدا كبيرا فى تعريف مفهوم الإسلام، فقد كان الأوروبيون يقولون إن الإسلام يعنى الاستسلام والطاعة العمياء، وهى المقدمة التى تنبنى عليها النتيجة التالية: إن كان دينك يدعوك إلى الطاعة والاستسلام فلماذا تقاوم؟ فتبنى الإمام هذه القضية ورد عليه فى بحث مطول أورد فيه رأى سيد أمير على الذى يقول فيه إن الإسلام يعنى تحرى الرشد وتزكية النفس، وذلك يعنى الطاعة الإرادية وليس الانقياد الأعمى، داحضا رأى «إدوارد رسل» بينما قال الإمام إن الإسلام يعنى الاستسلام حقا لكن لله فحسب، أى أنه يعنى «الإيمان» بالله وملائكته وكتبه ورسله والقضاء خيره وشره والبعث والحساب، وأن كلمة إسلام مشتقة من كلمة «سلم»، وهى تعنى التخلص من الشوائب والموبقات الظاهرة والباطنة التى «يسلم» المرء منها، كما تعنى الإذعان لله وحده لا شريك له وعدم الإذعان لغيره، وإكمالا لتلك القضية يتطرق الإمام إلى مسألة أخرى ألا وهى الفرق بين كلمة مسلم وكلمة مؤمن، إذ يرى الإمام أنه لا فرق بين اللفظين، فكلاهما يستعمله الله ويقصد بهما نفس الأشخاص الذى يؤدون نفس الأفعال، بل يرى أن الخوض فى هذا الأمر إنما هو من قبيل «تمحلات الفرق» وبناء على ذلك يقرر أن قضية الفرق بين اللفظين ما هى إلا قضية «مصطنعة اصطناعا»، فالدين عند الإمام يخاطب الروح والقلب ويقيم وزنا كبيرا للقلب الذى يأتى كثيرا بمعنى العقل أو الضمير، ويتجلى هذا فى الحديث الأشهر «إنما الأعمال بالنيات» والنية محلها القلب، لذلك فهو يرى أن العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقيام والحج لا ينظر الله إليها بحسب صورتها الظاهرة، وإنما يتنظر إلى القلوب المختبئة وراء العبادات، ومدى صفائها وصدقها وخشوعها، معتبرا أن الإيمان هو شرط صحة الأعمال، والإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل.
يتعرض الإمام إلى مشكلة علاقة الفلسفة بالدين وهى العلاقة التى شغلت أذهان الكثيرين وفيها وقعت مساجلات عديدة أشهرها ما دار بين الإمام أبوحامد الغزالى والفيلسوف ابن رشد، فيقول الإمام الكلمة الفصل فى هذا الشأن مرجحا أن الدين والفلسفة يبتغيان سعادة البشر، غير أن الدين يقوم على التصديق والإيمان ومصدره القلب، بينما الفلسفة تقوم على النظر والفكر ومصدرها العقل، لذلك فهما متفقان فى الغاية مختلفان فى الوسيلة، ولا يجوز أن نخلط بينهما ولا أن نفسر الدين بالفلسفة، وإنما يبغى أن ننظر إلى كليهما باستقلالية عن الآخر، وهو الرأى الذى يتشابه مع رأى الإمام أبى حامد الغزالى، لكن الإمام يرفض فكرة أن تكون الفلسفة خادمة للدين لأن ذلك يضر بالفلسفة والدين على حد سواء، فضرره بالدين يتلخص فى أنه يعكر صفو العقائد المقدسة ويجعلها قابلة للأخذ والرد والمناقشات العقلية المتناقضة، كما أن الفلسفة تكتسب بالأدلة بعيدا عن المشاعر القلبية التى تميز الوصول إلى حقائق الدين التى تملأ قلوب المؤمنين، أما الضرر الواقع على الفلسفة من خلطها بالدين فهو أنه يكسبها قدسية ليست بها، ويحدد نتائجها قبل إجراء مباحثها، وذلك يحد من حرية البحث ويحصنها من النقد، وهو ما لا يجب.
لا يعنى هذا أن الإمام يغفل دور العقل فى الدين، بل على العكس فإنه يعليه ويعتبره «صديق النقل» إذ لا إيمان إلا للعاقلين، ولا حساب ولا عقاب إلا لمن يستفتون عقولهم فتفتيهم، ويرى الإمام أن الإسلام جمع بين الدين والشريعة، قائلا «أما الدين فقد استوفاه الله كله فى كتابه الكريم ولم يكل الناس إلى عقولهم فى شىء منه، وأما الشريعة فقد استوفى أصولها وترك للاجتهاد تفاصيلها» ولع هذا الاقتباس يبرز رأى الشيخ فى مسألة الاجتهاد الذى يرى أنه ضرورة وواجب على كل الأئمة فى كل العصور، رافضا مبدأ غلق باب الاجتهاد مثل أغلب مصلحى عصره وعلمائه، ومؤكدا على تدعيم الإسلام للحرية الفكرية قائلا: قد تنبهت العقول وزالت غشاوة الغفلة عن بصائر الناس، ففهموا أن الدين ليس غلا للقلوب ولا قيدا على الأفكار، لكنه كما كان الإمام محمد عبده يقول قد كفل للإنسان أمرين عظيمين وهما استقلال الإرادة واستقلال الرأى والفكر، وبهما تكتمل إنسانية الإنسان ويستعد أن يبلغ السعادة، ويؤكد الإمام أنه لا خطر على العقل الواعى من الشتت والزيغ، وذلك لأن البشر صنفان مخلص ومغرض، من أخلص لله فسيخلص له فى كل الأحوال حتى لو أعمل عقله، ومن دخل الهوى قلبه فسيميل نحو أغراضه فى كل شىء حتى لو ادعى أنه لا يعمل إلا بالنقل، قائلا كلمته الشهيرة فى هذا الأمر «إن الذين يفكون العقول من أغلالها إنما يمهدون لها السبيل إلى الحق والدين من أسمى حقائق الوجود».
ومن خلال هذا المنهج الربانى النورانى الإصلاحى حارب الإمام الكثير من العادات الاجتماعية الخاطئة التى تأخذ صبغة دينية والدين منها برىء، ومن تلك العادات عادة تقبيل أيادى العلماء كمظهر لاحترامهم، قائلا إن الذين يمدون أيديهم الطويلة إلى الأفواه لينشروا جراثيم المرض يبذرون معها بذور الذلة فى الأنفس الطيبة، موضحا أن الدين ينمى علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وإخوانه من أفراد الإنسانية لذلك فهو وثيق الصلة بالحياة يواكب تطورها ولا ينغلق على نفسه ليظل دائما محافظا على المجتمع وواصلا للعباد بإلاههم الواحد، قائلا «فالدين ملازم للحياة من يضع دستورها ويجد فيه الإنسان الزاد فى حياته والنور الذى يهديه إلى الطرية المستقيم»، بل إنه يجزم بالقول إنه من غير الممكن أن يعرف الواحد أمزجة الشعوب الشرقية الإسلامية إلا من خلال الدين.
وأكثر ما يخاف الإمام على الأمة منه هو ضعف الشعور الدينى وضعف الشعور الوطنى، موضحا أن الدين الصحيح لا يعارض التقدم فى المظاهر الاجتماعية الحديثة من حضارة وعمران، ويذم آراء المتشدين الذى يصورن أن الدين هو الابتعاد عن الحضارة والمدنية، منزها الدين عن أن يكون عائقا أمام تقدم المسلمين، غير غافل أنه يتوجب على المسلمين ألا ينسوا مبادئهم وهويتهم الدينية أمام التقدم العلمى والمدنى والحضارى، داعيا إلى التمسك بأصالة القديم واحترامه وفى ذات الوقت أن ننهل من الجديد وتقدمه.
ويمضى الإمام فى كل كتاباته وتأملاته الإسلامية والفكرية متسامحا ومتصالحا لا يبتغى شيئا سوى نهضة المسلمين ورفعتهم، ولم أره مهاجما أحدا من المختلفين عنه إلا فى حالة واحدة هاجم فيها الشيخ أصحاب النزعة الوهابية المتشددة، بل إنه غالى فى الهجوم عليهم وفق منظوره المتسامح وأطلق على مذهبهم اسم «دين أهل نجد» فى إشارته منه إلى أن الدين الإسلامى لا يتضمن كل هذا التشدد، ومعلنا ضيقه بدعاوى التكفير التى أخذت فى الانتشار بعدما جاء «هذا الدين» فيقول الإمام: «ولقد نبرأ بدين هيئة كبار العلماء الذى يدفع بالكفر كل نزوع إلى العلم والفهم والذوق، فلما جاءنا دين أهل نجد يهدم على من فيها قبابا قد تكون آثارا فنية وتاريخية، يعرف خطرها «أى أهميتها» أهل الفن والتاريخ» قائلا فى النهاية إن الدين برىء من مثل هذه الدعاوة وإنما يشوه الدين أولئك الذين يريدون كيدا وتضليلا وقيدا للعقول والقلوب ثقيلا، ثم شن الإمام حملة على أولئك الذى يضيقون النظر فى الدين ويملأون الدنيا بفهمهم الخاطئ للإسلام وهم فى الحقيقة لا يراعون شيئا قدر مراعاتهم لشهواتهم ورغباتهم فتراهم تحت شعار الدين يكثرون من الزواج والطلاق ويبالغون فى الاحتفاء بالمأكل والمشرب.
على الجانب الآخر حارب الإمام البدع والتخاريف التى انتشرت فى مصر وقتها، فعارض الغلو فى الاعتقاد بكرامات الأولياء، قائلا إن الإسلام لا يقر واسطة بين العبد وربه، كما حارب من يستهينون بالشعائر المقدسة فى رمضان ويظنون أنهم بإطعامهم بضعة مساكين فقد حازوا الشرف كله، ولا ينسى الإمام أن يلوم علماء الأمة الإسلامية الذين تمسكوا بالمظهر وتركوا الجوهر فيستنكر أن يفتى الشيوخ بجواز لبس القبعة من عدمه بينما هم يختلفون فى تحديد كيفية رؤية هلال رمضان!
وضربا للتقاليد البالية والانغلاق المميت يقر الإمام حق الأمم فى أن يكون لها أعياد قومية تنمى الشعور الوطنى لأن حب الوطن من الإيمان، خلافا لمن يدعون أنه لابد من الاقتصار على الأعياد الدينية فقط، كما يقر الإمام أيضا مطالب المرأة بالحرية والعمل قائلا إنه يتوجب علينا أن نأخذ بالتدرج فى هذا الشأن، لأن المرأة حديثة عهد بالتعليم والخروج إلى الحياة العامة كما يرجو أن تعمل المرأة فى الأمور الخيرية التى يتغافل عنها الرجل لتتكامل وظيفة المرأة مع الرجل وتتحقق الفائدة للمجتمع، كما ينتصر الإمام للبسطاء والفلاحين والضعفاء، مؤكدا أن الفلاح المصرى أكثر الناس عناء فى السعى إلى تحصيل العيش وأقلهم متاعا وأضيقهم، كما دعا الإمام إلى الالتزام بدولة القانون، وأن يمارس الحاكم سلطاته بناء على صلاحيات محددة سلفا وليس بناء على صلاحيات مطلقة.
ولعل أكثر مواقف الإمام تحضرا هو موقفه من الفن الجاد المثمر الممتع فقد كان شغوفا بالفن والموسيقى والشعر والمسرح، وكان يقول عنه إنه يفيد الإنسان فى البحث عن قيم الحياة، لأنه إحساس نابض فى الوجود من قيم جمالية يعمل الفنان على إبرازها، ويؤكد أن الذين يتوهمون أن الدين يعارض الفن يدلون على أنهم يسيئون فهم طبيعة الدين وطبيعة الفن، وهو ما تدل عليه فنون الدول الإسلامية صاحبة الحضارات الكبرى كالدولة العباسية والأموية والفاطمية ودولة الإسلام فى الأندلس، فيقول إن المسلمون الأوائل أدركوا علة تحريم بعض الفنون كالأمر مثلا بعد الرسم أو النحت خشية أن يرتد الناس إلى عبادة الأصنام، فلما زالت العلة وزال الخوف من عبادة الأصنام زال التحريم، وبناء على هذا التوجه المستنير ترى الإمام يجاهر بإعجابه بأغانى أم كلثوم والقصائد الشعرية التى تغنيها فتنمى الذوق وتكسر الغربة بين العامة واللغة العربية الهادفة بل تجده يعتبر صوتها «نعمة من نعم الدنيا»، كما تجده يجتهد فى تحقيق ديوان الشاعر المصرى البهاء زهير لما وجد فيه من خلق قويم ولغة شفافة صادقة، وحب الخير وشرف للنفس وعزة وإباء، بل تجده يكتب عن مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم وهو مازال مغمورا فيكون أول من كتب عن هذه المسرحية التى تلهب الخيال وتستلهم القصص القرآنى ليكون الدين وقصص وتعاليمه شريكا للناس فى حياتهم يندرجون تحت لوائه بحب وارتياح وإيمان وخشوع.
مشاركة