لم تعان أمة الإسلام فى تاريخها من آفة مثلما عانت من آفة تكفير المسلمين.. تلك الآفة التى جعلت البعض يطلقون أحكام الكفر على المسلمين بغير مبرر شرعى.. وقد نسى هؤلاء أو تناسوا أن المجازفة بتكفير المسلمين أمر خطره عظيم.. فإخراج مسلم من دينه.. والحكم عليه بالكفر هو خلع لربقة الإسلام من عنقه.. وجزم بخلوده فى النار.. وفى مثل ذلك يقول الإمام الغزالى: «والذى ينبغى الإحتراز منه التكفير ما وجد إلى ذلك سبيلاً.. فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ.. والخطأ فى ترك ألف كافر فى الحياة، أهون من الخطأ فى سفك دم لمسلم». وصدق الإمام الغزالى حين قال: «القضية أن تكف لسانك عن أهل القبلة» يعنى المسلمين «ماداموا يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله.. فإن التكفير فيه خطر، أما السكوت فلا خطر فيه».
لقد قرر علماء الإسلام أن اليقين لا يزول بالشك، وأن الحقائق لا تمحى بالظن، وأن من ثبت إيمانه بيقين، فلا يزول إلا بيقين مثله.. والأصل فى التعامل مع المسلم هو استصحاب الأصل الذى هو عليه وهو الإسلام.. ولا يصح انتفاء هذا الأصل إلا ببرهان جلى، ودليل أوضح من شمس النهار. وفكر التكفير هو أسوأ لوثة أصابت العقل المسلم.. ودمرته وأحدثت أول فتنة فى تاريخ المسلمين والتى عرفت بفتنة الخوارج، وهم بلغة العصر جماعة التكفير، وهم الذين كفروا على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان وطلحة والزبير والحكمين.. فتأمل قسوة قلب ومشاعر هؤلاء الذين يكفرون أصحاب النبى الكرام، أعظم الناس بذلا من أجل الإسلام وعطاء ً فى سبيله، وإيمانا بالله ورسوله.. فتكفير من دونهم أسهل وأيسر.
والعقل التكفيرى عقل سطحى إذ إن كل خلاف بينه وبين الآخرين فى أمر الدين هو خلاف فى العقيدة.. هو كفر أو إيمان.. هو مفاصلة عقائدية.. ينتج عنها أن يكون أحد الفريقين مؤمنا والآخر كافراً.
والعقل التكفيرى يستكثر رحمة الله بخلقه، ويضن بها عليهم.. فكيف يدخل هذا العاصى الجنة، وكيف يتساوى مرتكب الكبيرة مع العابد والزاهد ليدخل هؤلاء الجنة سويا.. ناسيا أن الله غفر لبغى «أى لمومس».. لأنها سقت كلبا، رأته يلهث فى الصحراء من العطش، فنزلت البئر وملأت خفها وسقته.. وكأن الله يقول لهذه البغى «أنا أكثر منك جوداً وكرماً». وقد قال ابن القيم تعليقاً على ذلك: «إن أنوار الرحمة والتوحيد التى أضاءت بقلبها فى هذه اللحظة، وهى تسقى الكلب إرضاء لله وحده دون سواه، فلم يكن يراها أحد من الخلق.. ناهيك عن التواضع لهذا الحيوان الضعيف.. كل هذه الأنوار أذهبت نار المعصية من قلبها فغفر الله لها».
والعقل التكفيرى ينتمى لمن قال رسول الله «صلى الله عليه وسلم» عنهم، «من قال هلك الناس فهو أهلكهم».. فهم لا يعجبهم أحد.. يكفرون الحاكم وأعوانه.. والشرطة والجيش.. ويكفرون البرلمان أيضا.. ويكفرون الصوفية ويكفرون بعض الحركات الإسلامية.. فالناس جميعا عندهم هلكى.. وكان صديقى وحبيبى الشيخ حمدى عبدالرحمن يمزح مع أحدهم فيعطيه ورقة صغيرة، ويقول له مازحا: «اكتب لى فى هذه الورقة أسماء المسلمين فى العالم من وجهة نظرك».. وكان هذا أكبر تعبير عن نظرية «هلك الناس».. فهو شامخ بنفسه مغتر بإيمانه.. يرى نفسه أفضل من الآخرين.. وقد بشره الرسول صلى الله عليه وسلم «بأنه أهلكهم» بضم الكاف أى هو أسوأ منهم.. أو بفتح الكاف أى أهلكهم يترك دعوتهم والاستطالة والتكبر عليهم.
والفكر التكفيرى يجعل صاحبه قاضياً يحكم على الناس، وليس داعية يهدى الناس إلى الحق والخير.. وينسى أن الله لم يتعبدنا بتكفير فلان أو تفسيق هذا أو تبديع ذاك.. ولكنه تعبدنا بالدعوة إلى الله وهداية الخلائق والانشغال بذلك.
إن الله سبحانه لم يتعبدنا بإخراج الناس من الإسلام وإدخالهم فى الكفر أو الفسق أو البدعة.. ولكنه تعبدنا بإدخالهم إلى الإسلام، وإرشادهم إليه بكل رفق ورحمة.
أما الحكم على الناس فهو شأن القضاة.. وهم أقدر الناس على تحمل آثاره وتنفيذ ما يترتب عليه.. وهم قادرون على فحص الوقائع وتمحيص الأدلة.. ولا يكفر مسلم إلا بعد استيفاء الحجة التى يكفر تاركها، ولا يستطيع إلزامه الحجة إلا عالم ذو حجة أو سلطان ذو قوة « كما قال ابن تيمية».
أما الدعاة فالحكم على الناس ليس من صميم عملهم فضلا عن عوام الناس.. والدعاة لا يكفرون الناس ولكنهم مصدر هداية ورشاد ورحمة لهم.
الفرق بين فكر التكفير وفكر واعتقاد أهل السنة، هو «نقطة الصاد» كما كنا قديما نعلم أبناءنا.. فأهل السنة والجماعة يقولون إن المعصية تنفى الإيمان ولا تنقضه من أساسه.. أما جماعات التكفير فيقولون إن المعصية تنفى الإيمان وتنقضه.