أذكر تجاربى الأولى فى مشاهدة المسلسلات التليفزيونية فلقد وجدت أفراد الأسرة يتجمعون حول الجهاز الجديد الأبيض وأسود بالطبع فى ساعة معينة ولما سألت عرفت أنهم يشاهدون مسلسل «هارب من الأيام»، وكان من بطولة عبدالله غيث وكنت معجبًا به، ولم نكن قد تعرفنا بعد، وإن كنت قد تابعته فى المسرح منذ أن ظهر صامتًا، وكان هذا الظهور الصامت سببا فى أن يختاره مخرج روسى جاء إلى المسرح القومى فى عمل مشترك، ليكون بطلا لهذا العمل وهو مسرحية أنطون تشيكوف «الخال نانيا».
وأذكر تجربة أخرى غير «هارب من الأيام» هى المسلسل الأمريكى «الهارب» الذى تحول بعد ذلك إلى فيلم سينمائى، وأذكر أن صلاح ذوالفقار - ثار لتغيير مواعيد بروفات عمل حتى يمكنه وزملاءه مشاهدة حلقات المسلسل.
وأذكر عندما عرض مسلسل «رأفت الهجان» لأول مرة، أننا كنا نعد للجلسة أمام الجهاز ونستعين بالمشروبات والصمت، وتتعالى التعليقات فى النهاية، وأتصل تليفونيا بالكاتب صالح مرسى إذا لم يكن تليفونه مشغولا، وأعتقد أن إعجابى بهذا العمل هو الذى عرفنى بمخرجه يحيى العلمى ثم ببطله محمود عبدالعزيز، وأذكر أوأنا أكلم محمود عبدالعزيز أن انتبه أحدهم وطلب منى أن يسأله سؤالا، ودخل معه فى مناقشة الأداء فى مشهد معين. وكانت مناقشة على أعلى مستوى.
ولن أحكى كثيراً عن «جمعة الشوان» و«ليالى الحلمية» و«الراية البيضا» و«هو وهى» وغيرها من الأعمال البديعة، التى كنا نشاهدها بطريقة بديعة أيضا، وفى فترة تالية كنا عندما نضطر إلى الخروج نطلب من أحد أن يسجل الحلقة حتى نراها عندما نعود.
وفوجئنا بأن الدراما ارتبطت بشهر رمضان، ستجد من يقول لك سبب هذا، ولكن تتعدد الأسباب وتختلف، ولا اتفاق على هذه الظاهرة بالضبط مثل السرطان والعياذ بالله لا يعلم أحد له سببه.
وكان يُعرض فى رمضان مسلسلان أو ثلاثة، بالإضافة إلى فوازير رمضان أيام نيللى وشريهان وفهمى عبدالحميد، وكانت مائدة تصيب بالتخمة، ونشكو من زحامها، ولم نكن نعرف أنه سيأتى يوم لا يعرف أحد عدد المسلسلات التى تعرض فى الشهر الكريم لكثرتها.
قال بعض الحكماء إنه عرض فى هذا الشهر الكريم 73 أو 74 مسلسلا، ولأنهم حكماء فلقد صدقتهم، وقال لى شخص يقول عن نفسه إنه باحث إن ما عرض لا يزيد عن 46 مسلسلا وإن المبالغات رفعت الرقم، وعندما ناقشت صديقا يعمل فى هذا المجال قال لى تحديد الرقم مستحيل لأنه مجال تسوده الفوضى ولكننى أؤكد لك أن الرقم يقترب من المائة، وأظن أن القارئ يصدق أن ما انفجر فى وجهه فى رمضان 2012 كان مائة مسلسل، ولكننى لا أكذّب صديقى بسبب بسيط هو أن ممثلا شابا اتصل بى فى بداية رمضان لزوم التهنئة والدردشة، وسألته هل له عمل رمضانى هذا العام من باب السؤال، فنفى ذلك ولكنه قال لى إن له مسلسلا «صغيرا» بعنوان «كذا» يعرض على قناة «كذا» التى لم أسمع عنها من قبل، وطلب منى متابعة المسلسل، وبالتأكيد هذا المسلسل الضائع لم يكن فى قائمة الـ73 ولا قائمة الـ46 لذلك فهو يعزز الرقم الضائع الذى هو 100.
وتسأل كيف لا نعرف عدد المسلسلات على الشاسة وهى ليست مواليد سيوة، ولا أموال مبارك، ولا عدد سكان القاهرة، كل هذه الأشياء من الصعب الحصول على أرقام صحيحة لها، ولكن هذه أعمال تعرض على الشاشات يستطيع ولد دؤوب أن يتابعها ويصف العدد بالضبط، ولكن هذا لا يحدث لسبب بسيط جدا أن الدراما التليفزيونية ليس لها صاحب.
فى بداية إنشاء التليفزيون كان لها صاحب يخطط لها، ومع ثورة التصحيح فى عام 1971 اختفى هذا الصاحب.
وفى تلك الفترة بدأ الإنتاج الخاص فى أحضان تليفزيون الدولة إذ كان الوحيد الذى يمتلك الاستديوهات، وبدأ الإنتاج بمسلسل قصير من تأليف سيد خميس وإخراج عادل صادق بعنوان «صدى السنين» وكان من إنتاج محمد القزاز، والثانى كان مسلسل «قيس ولبنى» وأظن أنه كان من تأليف منتجه رياض العريان وأيضا من إخراج عادل صادق.
ولقيت التجربة هوى فى نفوس البعض، وبدا انها مربحة، ولذلك أنشئت فى تليفزيون دبى شركة لإنتاج الأعمال الدرامية وكان غالبيتها العظمى مسلسلات مصرية كاتبا ومخرجا وممثلا، ولأن الأعمال الدرامية لم يكن لها صاحب تضاه إنتاج التليفزيون المصرى مع نشاط هائل لإنتاج مسلسلات «وأحيانا سهرات أو حتى مسرحيات، مصرية فى دبى واليونان وتونس ولندن وعمان وبرلين. الدنيا تنتج أعمالا مصرية وصاحب الدراما إما فى غيبوبة أو مات. وجاءت الشركة المصرية للتليفزيون وهى شركة اشتهرت باسم «الكويتية» واستأجرت من التليفزيون الحكومى استوديو الجيب الذى هو أصغر من الشقة التى تعيش فيها وأنتجت أعمالا جميلة لا ننسى منها «زينب والعرش» عن رواية فتحى غانم الذى شارك فى كتابتها صلاح حافظ وأخرجها يحيى العلمى.
وتنبه الإعلام المصرى إلى أن الدراما التى ينتجها غير مصريين يكتبها كتاب التليفزيون المصرى ويخرجها مخرجوه وأحيانا يشارك التليفزيون المصرى، ولكن العائد المادى للمنتج، والعائد الأدبى أيضا ليس للتليفزيون المصرى. ولذلك أنشأ قطاع الإنتاج الذى أعاد للدراما المصرية وهجها، ولعب ممدوح الليثى دورا كبيرا فى جذب أفضل العناصر للقطاع، ومازال الجميع يذكر من رقى الإنتاج فى هذه الفترة.
وكان التسويق إلى هذه الفترة يتم عن جهاز بالتليفزيون وكان القصد - حتى فى الجهات الأخرى - إقناع عدد من المحطات بشراء المسلسل، فإذا اشترته ثلاث محطات مثلا كان رابحا، وإذا وصل إلى ضعف هذا الرقم كان خيرا وبركة، وبعض المسلسلات كانت تباع لست عشرة محطة، وكان هو الرقم الحلم.
وفى التسعينيات وفى تاريخ لا أذكره تم مؤتمر للمسؤولين العرب عن التليفزيون وكان رئيس هذا المؤتمر إيلى شوير إذا صدقت الذاكرة، الذى طرح فكرة الإعلانات ومدى أهميتها، وتأثيرها ووجوب أن تقسم الكعكة على الجميع، أو على الأصح على من يجب أن توزع عليهم.
منذ ذلك الحين لم يعد تسويق المسلسل لعدد كبير من المحطات هو المهم، بل جاذبيته للمعلنين، وبدأ المنتجون يسألون رجال الإعلان: ماذا تريدون؟ وما كانوا يسألونهم من قبل. ردوا بأنهم معجبون بفلانة أو فلانة وربما بفلان وبالطبع أقصد الممثلين والممثلات فلا أظن أن رجل إعلان يعرف شيئا عن كاتب أو مخرج.
وفجأة أخذ المنتجون يسألون الكتاب: من بطل أو بطلة مسلسلك؟ بل واشترط بعضهم موافقة خطية، وإذا أراد الكاتب أن يكتب ما كتبه شيكسبير فلا أهمية لذلك، هل يغرى شيكسبير رجال الإعلان؟
وتم حصر الأبطال المطلوبين من جهات الإعلان فى نحو عشرة أشخاص أطلق عليهم الوسط الفنى «العشرة المبشرون بالجنة» وبالطبع كان يدخل أحد الجدد الدائرة أو يخرج منها أحد القدامى.. لكن القائمة ظلت مقدسة.
ويأتى الممثل - أو الممثلة - وهو يعرف أنه لولا موافقته ما كان هذا المسلسل. أكثير عليه إذن أن يطلب مؤلفًا بعينه بالطبع على مزاجه?، وليس كل الممثلين قادرين على فهم أصول الدراما، وليس كلهم قادرين على احتمال دور جميل لزميل إلى جوار دوره.
أيضا لابد أن يكون المخرج على مزاجه، وحدث فى مرات أن طرد الممثل المخرج لأنه لا ينفذ تعليماته، أو على الأقل ينكد عليه حتى يترك العمل.
وهبط المستوى الفنى للدراما المصرية فى الوقت الذى ارتفع المستوى فى سوريا، وبعض دول الخليج، وبعض دول شمال أفريقيا، وأنا من الذين يقفون إلى جانب كل عمل عربى متميز.
لكننى أشير هنا إلى أن المأساة هى السقوط المخجل للدراما المصرية التى كانت أبرز وجوه القوى الناعمة فى العقود الماضية.
بالطبع أنت - يا عزيزى القارئ - تريد أن أحدثك عما حدث فى هذا العام المأسوف عليه، فما يقال عنه من الممكن أن يكون مثل الحديث عن الأساطير. وكنت أنا أيضا أريد هذا. لكن طالت المقدمات. والعزاء فى أنها قد تشرح ما يحدث فوجئنا بعدد غامض من المسلسلات تعرضها القنوات ليلا ونهارا، أى أنك لو استيقظت ليلا فى أى وقت ستجد عشرات المسلسلات على الشاشات.
وأخذ المتابعون يصنعون الخرائط ليشاهدوا ما يريدون حسب توقعاتهم وهى غالبا أقرب إلى التخمين.
ونشاهد المسلسل من بداية التتر «إذا كان له تتر» فبعض المحطات ألغته لعدم ضرورته، فلا أحد يريد أن يعرف اسم الكاتب أو المخرج أو مدير التصوير أو حتى اسم الممثل الجديد الذى أعجبه، نشاهد مشهدا واحدا فى الغالب ثم تبدأ الإعلانات وتطول وعندما تتوقف لأن لكل شىء نهاية، نكون قد نسينا ما نشاهده، وربما نسى أحدنا اسم المسلسل، ومع مر الأيام، استخدم المشاهد «الريموت» للنقل على محطة ليس فيها إعلانات.
والإعلانات أيها السادة شديدة السخف ثقيلة الظل ورغم ذلك تتكرر مثل النكتة البايخة، وأسأل شركات الإعلان: هل زادت مبيعاتها بعد هذه الإعلانات؟ ولا أظن أنه لا زيادة إلا ما تدفع إليه أشياء كالحر الشديد مثلا الذى دفع الناس إلى التكييفات والمراوح والحاجة الساقعة! وكأن الحر هو صاحب الفضل فى ارتفاع المبيعات، وأظن أنهم لو حجبوا هذه الإعلانات لكانت مبيعاتها أكثر، أو على الأقل لكانت المشاهدة أكبر.
وما حدث فى هذا العام يحتاج إلى شخص رشيد أو جهة رشيدة تتعامل بذكاء مع ما يحدث.
فنحن أمام سلعة تتعامل فى أكثر من مليار جنيه وتصل إلى ملايين العرب فى البلاد العربية وفى غيرها، وعندما أسافر إلى أوروبا بعد العيد أقابل عربا يتحدثون عن المسلسلات ورأيهم فيها، وغالبا ما تكون آراء مختلفة عما نظن.. أيضا هى صناعة يعمل فيها الآلاف، واقرأ «التتر» ستجد عددا كبيرا لمشاركين فى عمل واحد.
ولذلك لابد أن يكون لهذه السلعة الغنية الهامة جهة مسؤولة عنها، بالطبع نقابة السينمائيين ونقابة الممثلين لهما دور ولكن يجب أن تكون هناك هيئة غير حكومية بالطبع تتمتع بسلطات معقولة تدير الدراما التليفزيونية، وتوزع الـ73 مسلسلا أو الـ46 أو الـ100 على السنة كلها، وأنا لا أرى تناقضا بين الدراما وشهر رمضان، لكن لا أرى رابطا أيضا وأعتقد أننا سنرى العمل الجيد فى غير رمضان بنفس الحماس وربما قلت كراهيتنا للإعلانات.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرية جدا
مسلسلات أم ملوثات ؟