فى مناخ ثورة يناير انطلقت أسئلة من هنا وهناك تتعلق بالاهتمام بالعلم من أجل النهوض بالمجتمع واللحاق بركب التنمية، لأنه بغير العلم لا مكان لنا تحت الشمس، وهذا القول يعنى أن مشكلة مصر تبدو فى عدم امتلاكها ناصية العلم، وهذا التصور خارج عن الحقائق الموضوعية، والدليل على هذا أن مراكز البحث العلمى فى مصر عامرة بالباحثين العلماء فى كل المجالات وبعضهم تخرج فى جامعة أوروبية أو أمريكية، وبعضهم تخرجوا فى جامعة مصرية، وأعدوا بحوثا فى مختلف مجالات العلم، لكن المشكلة تبدو بوضوح فى عدم توظيف تلك البحوث وتطبيقها عمليا، وكل ما يحدث أن صاحب البحث أو التجربة يحصل على درجة علمية أو مكافأة مالية، وينتهى بحثه إلى أرفف المكتبة ليصبح بعد فترة وجيزة فى تاريخ العلم.
وفى هذا الخصوص أتذكر حديثا لأحد الباحثين المصريين فى البرنامج الإذاعى «مع العلماء الشبان» حيث قال إنه توصل إلى «تخليق» حشرة بيولوجية تأكل دودة القطن ويرقاته دون حاجة إلى استخدام المبيدات الكيماوية التى تضر بالزراعات الأخرى. وقد أكد فى حديثه أن المسؤولين فى الدولة لم يفكروا فى توظيف هذا الاختراع، وهذا هو مربط الفرس فى الموضوع، ذلك أن توظيف هذا الاختراع بالعمل على تطبيقه سوف يحول دون استيراد المبيدات الحشرية التى يقوم بها وكلاء الشركات العالمية فى مصر من أبناء ومحاسيب زمرة كبار المسؤولين، وهكذا الحال فى سائر المخترعات والمكتشفات.
ولا تبدو مشكلة مصر أيضا فى زيادة ميزانية البحث العلمى، كما يبدو من أحاديث بعض المهمومين، فمن المعروف أن كثيرا من الجامعات الأوروبية - الأمريكية لا تملك ميزانيات هائلة للصرف منها على البحث العلمى، بل إن الشركات والمصانع تطلب من الجامعات حل مشكلة إنتاجية معينة تواجه عملية الإنتاج لديها، وتقدم منحة مالية لهذا لغرض ويعهد أحد الأساتذة المتخصصين لأحد الباحثين الذين يعملون معه بدراسة المشكلة وتقديم الحلول ويحصل على نصيب من المنحة المالية، وبهذا التعاون المشترك يحدث التوظيف المنشود للعلم وتتقدم المجتمعات وتتراكم المعرفة. وهذا ما لا يحدث فى مصر إذ إن وحدات الإنتاج لدينا تفضل الاستيراد حتى يربح الوكلاء ولأن «الشيخ البعيد سره باتع» كما يقول المثل الشعبى.
ولا تقتصر مشكلات البحث العلمى فى مصر على تلك الخصوصية، بل إن لها بعدا آخر يبدو فى روح الغيرة والمنافسة القاتلة بين العلم والسياسة أى بين الباحث والمسؤول الذى يرى نفسه أعلم من الباحثين لديه باعتباره رئيس العمل، وبالتالى يصبح الباحثون لدينا مجرد موظفين يؤدون عملا كتابيا لا يحتاج إلى قدراتهم العلمية.
وعلى هذا ينبغى أن نتحرر فى مصر من هذه الخصوصية التى أصابت العلم والعلماء فى مقتل حتى ينتصر العلم على أصحاب التوكيلات التجارية وعلى النفوس الضعيفة ويأخذ المجتمع خطواته بثبات نحو المستقبل، وأن ندرك أن المشكلة لا علاقة لها بالموازنات المالية. ولعل حكومة «الثورة» فى مصر تضع هذه القضية فى أولوياتها وتكون التعليمات واضحة وصريحة من حيث تبنى المخترعات والمكتشفات وعدم وضعها على الأرفف، ولتحقيق هذا ينبغى اختيار وزراء ومسؤولين طبقا لهذا المعيار، وهذا يعنى الابتعاد عن منطق الشلة عند الاختيار، لكن يبدو من ظاهر أنباء التشكيل الوزارى ومن الأسماء المتداولة للترشيح لتولى وزارة أو أخرى أن الأمر يدور فى نطاق المقربين بدرجات متفاوتة رغم الإعلان عن أن الاختيار يتم وفق معيار الكفاءة والمهنية. فإذا افتقدنا معيار الكفاءة والمهنية فلن يتقدم البحث العلمى فى مصر، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
avatar
و بماذا ينفع العلم مع الفساد و الجهل و المرض