لن أمل من تكرار تلك الجملة، فهى على بساطتها وعفويتها وتلقائيتها جسدت أحلاما عريضة وأهدافا بعيدة، ما كان لأحد أن يجسدها إلا بهذه البساطة والعفوية، قال أحد شباب الثورة لإحدى القنوات فى ميدان التحرير، ردا على سؤال وجه إليه عن سبب تواجده فى الميدان: طول عمرنا بنسمع عن مصر اللى فى كتب التاريخ بس مشفنهاش، وأنا هنا عشان ترجع مصر زى ما قاللونا عليها فى كتب التاريخ.
لهذا لخص الشاب آلاف الصفحات فى جملة واحدة، هو يريد أن يستعيد مصر التى فى خاطره وفى خاطرنا، دون استطراد ولا شرح، فهى مصر التى طبعها الله فى قلوبنا كالفطرة، جميلة نقية صادقة عفية، هى البلد الكريم الآمن العادل الجميل الجميل الجميل، أودعها الله أمانة فى أعناقنا وهى على جمالها الأبدى، وليس ما يشوبها الآن إلا من جراء أفعالنا الآثمة فى البلد الجميل.
كانت الثورة بالنسبة لهذا الشاب ولغيره من مئات الآلاف من الشباب حرب استعادة لمصر المتخيلة، التى نراها قريبة ويرونها بعيدة، لن نحتاج إلى مجهود كبير للنصر فى تلك الحرب، فلم يكن علينا أن ننشئ وطنا من جديد، ولم يطلب منا أحد أن نتخيل أكثر مما هو واقع بالفعل، فقط كان علينا أن نزيح القشور العفنة من فوق الوجه المنير، وأن نستعيد ميراثنا الحضارى من أيدى حفنة الجهلة الذين كانوا يحكموننا، من يد من لا يعرفون مصر ولا يقدسونها ولا يوقنون بعظمة شعبها وقدرته على تخطى الطغاة ووضعهم فى المكانة، التى يستحقونها فى الدرك الأسفل من اللعنة.
تبدو المقارنة هنا محزنة بين كلمة الشاب، الذى لا أعرف اسمه ولا أتذكر شكله ولا حتى القناة، التى أدلى إليها بتصريحه، وما آلت إليه الثورة من مصير على يد الطائفة الإخوانية والطائفة العسكرية اللتين تشبهان فى تكوينهما طائفة "المماليك" فى أشد مراحل التاريخ انحدارا، فقد علمنا التاريخ أنه ما من دولة سقطت إلا وسبق سقوطها حجرا على الآراء واضطهاد للمعارضين، ولا يعرف الواحد كيف نسى الإخوان معاناتهم مع الحزب الوطنى، الذى كان يصادر آراءهم ويحرق كتبهم ويشوه رموزهم وصاروا فى أيام معدودات أقسى وأبشع وأكثر قوة ومضاء فى استعادة ميراث العفن، الذى اجتهد فى صنعه حزبنا الوطنى الغابر، بدلا من استعادة ميراث النور، الذى أنشأته مصر عبر تاريخها الطويل الجميل.
فجأة صار صبيان الإخوان الذين وضعوهم فى صحفنا الحكومية يصادرون الصفحات مثلما فعل صبيهم فى جريدة الجمهورية ويحرمون الكتاب من إبداء رأيهم مثلما فعل عاملهم فى "الأخبار" ويصورون مرسيهم باعتباره البطل المغوار الذى ينطلق بالثورة مثلما فعل مستأجرهم فى مجلة أكتوبر ويدبجون قصائد المدح مانعين باب مراقبة الـ100 يوم، كما فعل تابعهم فى الأهرام، ويمنعون نشر حلقات "مذكرات إخوانى سابق"، كما منع وكيلهم فى المصور، هذا طبعًا خلاف محاصرة الصحفيين بالبلاغات مثلما يحاصرون الآن الكاتب الكبير عبد الحليم قنديل، ولو ملكوا أن يمنعوا هذا المقال، الذى تقرأه الآن من النشر وأن يمنعوا كاتبه من الكتابة لفعلوا، ليستعيدوا كامل حقهم فى الميراث المقيت، إيذانا بنهايتهم مثلما انتهى مورثهم.
وعلى سيرة المماليك فقد كان العالم الفقيه محيى الدين النووى كثيرا ما يخاطب الظاهر بيبرس ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، ولما ضاق الظاهر به أمر بنفيه ومنعه من ملاقاة جمهوره وتلاميذه، وقال له اخرج من بلدى فخرج مجبرًا مقهورًا، فتوسط العلماء للنووى عند بيبرس ليرجعه إلى بلده فرجع عن رأيه وأمره بإعادة الشيخ إلى بلده وبيته، لكن الشيخ أبى وقال لزملائه، لن أرجع والظاهر فى بلدى، فمات الظاهر بعد شهر واحد، وعاد الشيخ.
أظن الرسالة وصلت.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
خالد
اكثر
عدد الردود 0
بواسطة:
عبده
كلمه حق
عدد الردود 0
بواسطة:
ليبرالي
طريق النهاية
عدد الردود 0
بواسطة:
Mostafa
اللهم عليك بهذا الكاتب وامثاله
عدد الردود 0
بواسطة:
مازلت مصرى
أحييك .... إلى الامام
عدد الردود 0
بواسطة:
حازم عمر
تفاصيل
عدد الردود 0
بواسطة:
m
سواد قلبك
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد عادل
الاخوانوفوبيا
عدد الردود 0
بواسطة:
نور
حزب المفسدين
عدد الردود 0
بواسطة:
ضياء
الفرق بين النقد وقلة الادب