تعودنا فى السنوات الأخيرة، وربما فى العقود الأخيرة أن نختار موضوعات ضخمة لنكتب فيها، قال لى زميل من كتاب الدراما إن المسلسل الناجح هو الذى يبدأ بجريمة قتل ويحسن أن تكون شنيعة، وأن تصدم المشاهدين، والفيلم الذى لا ينام فيه المتفرجون هو الفيلم الذى يحدث أكثر من ثلاث حوادث قتل، والمتميز هو ما يحدث أكثر.
وفى غير الدراما ينتقى الكاتب الحادث المثير كأن يكون عن كارثة محلية كبيرة، وإذا لم تكن محلية فأنت فى حاجة إلى حادث فيه ألف قتيل.
ماذا يفعل الكاتب إذا استولى عليه موضوع صغير لا يثير الذعر ولا الحزن، وليس فيه نقطة دم واحدة بل قد لا يهتم به أكثر الناس.
الموضوع ببساطة وباختصار لأنك تريد أن تعرفه: أن بريطانيا التى تحوز على آلاف اللوحات الشهيرة أو المهمة، لديها لوحة لبيكاسو أراد صاحبها أو أصحابها أن يبيعوها والسعر المتوقع هو ثمانون مليون دولار، ولأن هذا البيع سيحدث فى مزاد خارج بريطانيا فمن الممكن أن يرتفع السعر عن هذا الرقم، ومن المحتمل أيضًا أن تباع لأحد فى الخارج.
موضوع كما ترى لا يهم الأغلبية العظمى، وبالطبع لا يهم من يرون أن الرسم حرام، وهى أيضًا ليست اللوحة الشهيرة لبيكاسو وهى واحدة من لوحات عديدة رسمها عن طائر الحمام الجميل.
وإذا كتبت عنها فلابد من يسأل أين مشاكل الأمن، والقمامة، وانقطاع التيار الكهربائى، والاحتقان الطائفى، والتحرش، وتأخر الدستور، ورغيف العيش، واختفاء المياه.. و.. و.
ما أثارنى أن بريطانيا هبت ترفض خروج اللوحة منها، والمشاركة فى مزاد، ومنعت الحكومة خروجها فعلا، ولما كانت بريطانيا دولة رأسمالية تقدس حق الفرد فى التصرف فيما يملك، أعلنت أنها تسمح بمشاركة اللوحة فى المزاد لكن «غيابيا»! فإذا فاز بها مشترٍ بريطانى فحمداً لله، أما إذا لم يتقدم بريطانى لشرائها فسيقوم «مجلس بريطانيا للفنون» بتوفير المال اللازم لشراء اللوحة، هذا وعد منه!
وصاحب هذا حديث مكثف على أن الأشكال الإبداعية هى التى تعطى بريطانية قيمتها وقدرها.
وتخيلت أن هذه اللوحة لدينا وأراد صاحبها أو أصحابها بيعها بهذا المبلغ الفلكى، ما كان أحد سيعترض بل كان البعض سيهنئوننا لأننا تخلصنا من هذه البدعة ولدينا أيضا لوحات -ربما لن تباع بهذا المبلغ- لكنها لوحات عالمية، وضعنا عليها خفيرا لا يعرف يعنى إيه لوحة وكاميرا خربانة، وسرقت لوحة الخشخاش مرتين، فى المرة الأولى لم تكن هناك الكاميرا الخربانة وإن كان هناك الخفير، وفى المرة الأولى لم يستعدها أحد، بل عادت وحدها فنحن بلد المعجزات، وقيل يومها أن الأولى كانت بروفة فلما نجحت تمت السرقة.
ومن غضبوا لما حدث، فعلوا ذلك لقيمتها المادية، أو للإهمال الذى يمثل ظاهرة عامة، ولكن لم يهتم أحد بما اهتم به البريطانيون من أن هذا جزء من ثروة البلد وقيمته.. ولأننى لا أكتب فقط للذين يعرفون قيمة اللوحات وضرورة المحافظة عليها أقول إن البريطانيين فعلوا هذا وبيكاسو ليس بريطانيًا بل هو إسبانى، وكنت فى صباى الباكر أظنه فرنسيا وذلك لأنه عاش فى فرنسا معظم حياته، وبهذه المناسبة كنت لفترة طويلة أظن أن كلوت بك طبيب إنجليزى، وفى وقت متأخر عرفت أنه فرنسى، وفى الحقيقة كان يجب أن أعرف هذا لأن محمد على باشا كان يميل إلى الفرنسيين وورث معظم ورثته عنه هذا، ولكن لا أحد فوق الخطأ، وفى حديث عن مثل هذه الأشياء قال المؤرخ الراحل يونان لبيب رزق: إلى سنوات قريبة كنت أظن أن من بنى كوبرى أبوالعلا انتحر!
والجيل الجديد الذى لم ير كوبرى أبوالعلا، كان تحفة فنية يربط بين حى أبوالعلا وبين الزمالك، ومع إنشاء شبكة الكبارى القبيحة «6 أكتوبر و15 مايو» كان لا بد من إبعاد كوبرى أبوالعلا، وفى أوروبا كثير من الكبارى القديمة تحولت إلى أماكن ترفيهية أو سياحية، أذكر منها كوبرى شارل فى براغ، وعليه يجلس فنانون يرسمون، وفنانون يصنعون التحف الصغيرة، وأزرار القمصان وأشياء صغيرة رائعة الجمال، ويزدحم الكوبرى بالناس خاصة مع ليالى الصيف، ويحرص على زيارته السياح واقترح البعض مشروعا كهذا.
ونعود إلى بيكاسو الذى سيطر على الفن التشكيلى من نهاية القرن التاسع عشر إلى ما بعد الحرب العالمية، ولأن بيكاسو عندما كان طفلا فى إسبانيا كان ابنا لرجل من هواة تربية الحمام وكان يطلقه فى كل غرف البيت فلقد تأثر بالحمام ورسمه كثيرا.
وعندما كنت صغيرا كنت أعتقد أن أكبر هواية للمصريين هى تربية الحمام ففى كل مكان كانت توجد أبراج للحمام، وقصص عن استدراج الحمام من غية إلى أخرى، والخلافات والانتصارات والهزائم.
وكان طبيعيا أن أحب الحمام فهو طائر وديع جميل، لكننى لم أقتنع بأن أربى حماما، وإن كنت قد ربيت أرانب!
وكان بيكاسو الرجل الذى جعل صورة الحمام فى كل مكان، وكان بيكاسو قريبا من اليسار الفرنسى وكان من زواره الشاعر الفرنسى الكبير لويس أراجون، وتوقف أراجون عند لوحة لحمامة، وقال إنه يقترح أن تكون رمزاً للمؤتمر الذى يعقدونه مطالبين بالسلام العالمى، وبعدها أصبحت هذه الحمامة أشهر طائر فى العالم، وكانت صورة بيكاسو فى صورة مؤتمر السلام العالمى الذى أصبح منظمة عالمية، ولأنه مرتبط باليسار كانوا فى بلاد العالم الثالث -مش بلادنا- إذا وجد الأمن مع أحد صورة الحمامة التى رسمها بيكاسو قبض على هذا الأحد وأدخل السجن وفى خمسينيات القرن الماضى صدرت جريدة بعنوان «الكاتب» على وجهها صورة الحمامة التى رسمها بيكاسو فكانت تصادر.
وهكذا أخافت الحمامة الرقيقة الأنظمة الفاشية والمستبدة، وكانت من أكبر ضربات بيكاسو لهذه الأنظمة على لوحته الأخرى «جريكو»، ولوحة «طفل وحمامة» التى رفضت بريطانيا أن تخرج من أرضها، رسمها بيكاسو فى عام 1901 وكان آنذاك فى التاسعة عشرة من عمره.
ومع ذلك لقيت نجاحًا كبيراً، وفى نهاية الأربعينيات ذهبت الكاتبة سيمون دى بوفوار إلى بيكاسو لتطلب السماح لحركة المرأة المناصرة للسلام بطبع اللوحة على بطاقات عيد الميلاد، وكان معظم بطاقات العيد فى هذا العيد وما بعده صورة لوحة بيكاسو، وانتقلت الصورة إلى الأطباق والفازات والكراريس.
هذه هى اللوحة التى رفضت بريطانيا بيعها.. لماذا؟
لأن أعظم ما فى الوطن هو الإبداع.. الأدب.. الرسم.. النحت.. المسرح.. الموسيقى.. إلخ. هذا ما تمتلكه الأمة ولا يستطيع أحد أن ينافسها فيه، يستطيع أى بلد أن ينافس فى إنتاج القمح أو صنع السجاد، أو رصف الشوارع، لكن من يمتلك «الطفل والحمامة» لا ينافسه أحد حتى ولو بلوحات أخرى لبيكاسو.
سألنى صديقى عن مساحة اللوحة، وسألته لماذا يسأل هذا السؤال فقال: لكى أعرف كما تحتاج من قماش لتغطيتها!!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري
راجل محترم
راجل محترم رغم الحاقدين والجاحدين والغيورين
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري بحب بلدي
ونعم المقال
عدد الردود 0
بواسطة:
برنس (من الحياة)
ولو