فى عهد حسنى مبارك الذى يتلكأ فى لملمة أشيائه والرحيل إلى حيث أماكن الماضى، كان أهل الأحزاب والحركات السياسية المعارضة يتغنون بوزراء أوروبا والدول المتقدمة الذين يسيرون فى الشوارع وداخل المصالح الحكومية، ومؤسسات الدولة، أكثر مما يجلسون فى مكاتبهم المكيفة، وكان الواحد من أهل هذه الأحزاب والحركات، يبالغ فى بكائه على حال مصر، وحال المسؤولين فيها الذين لا يعرفون للشارع طعما، ولا يدركون أهمية الزيارات المفاجئة فى إصلاح أحوال الناس، ومراقبة وصول الخدمات إليهم، وكنا نسمع الكثير من الأشعار عن ضرورة نزول الوزراء إلى الشوارع ،لتفقد ومتابعة أحوال الناس وهمومهم، والاستماع إلى شكاواهم وهمومهم، وسيطر على ظنى وقتها أن ظهور أول وزير ينتمى إلى تلك الفئة التى تسير فى الشوارع، وتفاجئ المصالح الحكومية بزيارات نهارية وليلية، سيلقى من الترحاب والتشجيع ماحصل عليه أبو تريكة بعد هدفه الشهير فى الصفاقسى التونسى، ولكن خاب ظنى، ولم يحصل الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء الذى ترك المكتب ونزل الشارع، واعتمد الزيارات المفاجئة، أو حتى غير المفاجئة، تقليداً لأيام ولايته الأولى على أى ترحاب، بل وتعرض إلى حملة قومية للتفتيش فى نواياه وسعى البعض للشق عن صدر الرجل فى محاولة للعثور على أى شىء، يشكك فى هذه الزيارات أو يقلل من تأثيرها.
قنديل الذى جاء من حيث لا يعلم أحد إلى كرسى رئاسة وزراء مصر، وأثار موجة من الجدل والسخرية بسبب تصريحات الملابس الداخلية والقطنية، فعل ماكان يعتبره أهل السياسة فى مصر فعلا من أفعال التحضر والرقى، وترك مكتبه ونزل إلى الشوارع.. مرة فى محلات وسط البلد، ومرة فى المترو، وأخرى فى قسم شرطة، ورابعة حينما فضل زيارة الإسكندرية بالقطار لمتابعة أحوال السكك الحديدية، ومع ذلك تعرض فعله الذى كان يعتبره البعض منذ سنوات حلماً.. إلى وسيلة للتشكيك فى نوايا الرجل وجديته، ووصف البعض الزيارات بأنها للشو الإعلامى، بينما اعتبرها آخرون محاولة من قنديل لامتصاص غرابة تعيينه رئيساً لوزراء مصر، وأمام هذا الفريق الذى لم ير فى زيارات الرجل حسنة واحدة، ظهر فريق جديد من مؤيدى الإخوان والتيار الدينى عموما بالغ فى مناصرة قنديل، حتى وصل بما يفعله إلى محطة الإنجازات القومية، فضاع المعنى الكامن وراء نزول الوزراء والمسؤولين الكبار من منازلهم إلى الشوارع لتفقد الأحوال والمصالح، وأصبح محصوار بين مفهوم يراه «شو إعلامى» ومنظرة فارغة، ومفهوم آخر يراه إنجازا قوميا بغض النظر عمايحققه فى أرض الواقع.
وبعيدا عن تطرف هؤلاء.. أو مبالغة أولئك، ستبقى زيارات الدكتور قنديل، وتكرار نزوله إلى الشارع، محاولة لصك مفهوم جديد يجبر القادم من المسؤولين على تكراره، وإن كان وزير اليوم أو مسؤول تلك الفترة، يقوم به على سبيل المنظرة و«الشو» فإن مسؤول الغد، أو وزير المرحلة القادمة، سيكون مضطراً للقيام به على سبيل أداء الواجب، وسيصبح جزءاً من طبيعة عمله ونشاطه الوزارى.
قنديل يستحق التحية – حتى وإن كنت مختلفا معه، ولا نعرف حتى الآن مؤهلات وجوده على الكرسى - ويستحق دعمك ودفعك لضمان استمرارية تلك الزيارات، حتى يتحول نزول الوزراء إلى الشوارع، واستخدامهم المواصلات العامة، حقا لا منحة أو هبة.