> انقضى الشهر المبارك بسرعة وفجأة ودون مقدمات.. لنشعر وكأن نهر الخير قد نضب وطاقته التى دبت فى أجسادنا العليلة قد نفد معظم رصيده.. وحب العبادة قد نقص كثيراً.
> إن هذه المحنة تتكرر فى كل عام لنعيش فترة بعد رمضان الخير فى حالة انعدام وزن.. وفقدان لبوصلة الخير ودافعيته وجاهزيته.
> وقد تفكرت فى هذا الأمر طويلاً فوجدت أن سنن الله فى خلقه تستلزم عدم القدرة على حيوية وقوة وتوتر الإرادة الإيمانية باستمرار لدى الأكثرية.. سواءً فى الفرد أو الأمة.
> فقد تستطيع أمة مثل مصر أن تستجمع طاقاتها وإرادتها وقوتها أثناء حرب أكتوبر الذى استغرقت قرابة الشهر.. ولكنها لا تستطيع ذلك لسنوات طويلة.. ولا تستطيع ذلك فى معارك البناء والتنمية والتعمير والعدل السياسى والاجتماعى والبحث العلمى والإصلاح المجتمعى.
> فالصبر قصير المفعول تكاد تجده كثيراً بين الناس.. أما الصبر طويل المفعول فلا تكاد تجده بين الناس إلا نادراً.
> وقد أدركت أن الإنسان المسلم السوى يحتاج إلى نوعى الصبر معاً «طويل المفعول وقصيره».
> فقصير المفعول يثبته عند كبريات المحن التى تتسم عادة بالقصر والشدة معاً.. وفى هذا المعنى يدخل قول النبى (صلى الله عليه وسلم) للسيدة التى كانت تنتحب من البكاء على ولدها: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى».
> فقد نصحها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالصبر لما رأى انهيارها فقالت: «إليك عنى فإنك لم تصب بمصيبتى» فقالوا لها: إنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. فذهبت إليه وقالت له معتذرة لم أعرفك.. فقال لها حكمته الغالية والعميقة والتى لم أفهم معناها إلا فى المعتقل وهى «إنما الصبر عند الصدمة الأولى».
> وقد قابلنا فى بداية سجننا الإخوان الذين سجنوا فى الخمسينيات والستينيات فقالوا لنا «السجن القصير نعمة.. والسجن الطويل ابتلاء لا يقدر عليه إلا الأفذاذ من الرجال».
> وقد صدق هؤلاء.. فالسجن القصير جميل ورائع تحفظ فيه القرآن وآلاف الأحاديث وتتعلم وتتربى فيه على الكثير من الخير وقبل أن تمل تخرج إلى الحرية.
> أما السجن الطويل فيحتاج إلى الأفذاذ الذين يملكون الصبر طويل المفعول والرضا عن الله وعن قدر الله بلا حدود ودون قيود.. وأن يقدم ما يحبه الله على ما تحب نفسه.. وأن يشغل نفسه كل يوم بطاعة جديدة ومغايرة للتى سبقتها.. وأن يكون كثير الحلم لا يعرف الغضب.. متسامحاً مع الجميع.. يدعو للناس ولا يدعو عليهم.. وإلا ضاق صدره سريعاً ودعا على الجميع.. يحب الناس ويعطف عليهم ولا يحقد على أحد.. ولا يرغب فى الثأر من أحد.. ويتربى على معانى التواضع لخلق الله والانكسار لله.. وكلاهما لا يتم إلا بالآخر.
> وقد تفكرت فى قصة سيدنا يوسف عليه السلام الذى مكث فى السجن طويلاً فوجدتها تتلخص فى كلمة واحدة هى «الإحسان إلى الخلق».
> ووجدت فى سجنى الطويل أن هذا هو المفتاح الحقيقى للصبر طويل المفعول.. ولذلك عشت فى سجنى 24 عاماً فلم أحدث نفسى يوماً بالخروج منه.. ولم أطلب من أحد أن يخرجنى أو يسعى فى إخراجى.. وشغلت نفسى مرة بعلاج المعتقلين السياسيين والإخوة والجنائيين أو الشاويشية أو الجنود.. وساعة بالدراسة.. فدرست وتخرجت فى عدة كليات.. وساعة بالتدريس والخطابة والدعوة إلى الله.. وساعة بتأليف الكتب حتى أننى استطعت تأليف 25 كتاباً طبع بعضها وترجم بعضها إلى عدة لغات ونشرت ملخصات لبعضها فى صحف عريقة مثل الشرق الأوسط اللندنية وغيرها.. وساعة بالتدريس للآخرين.. أو السعى فى حاجاتهم..
أو تفريج كرباتهم.. وقد وجدت أن أعظم الطاعات والقربات بعد العبادة هو تفريج كربات الناس وخاصة السجين والمعتقل.
> لقد تفكرت بعد خروجى فى رحلة سجنى الطويلة قائلاً لنفسى: كيف يصبر مثلى وجسمى ضعيف وطاقتى ضعيفة على ربع قرن من السجن لا يمل فيها ولا يضجر؟!!.. ولو قيل لى ذلك قبل السجن ما صدقت.. فكيف حدث هذا؟!!.
> فقلت لنفسى: ذلك من الله وحده ثم ببركة الحديث الشريف «والصبر ضياء».. فهو الذى يضىء المحنة ويحولها إلى منحة وينير ظلمتها فتتحول إلى بهجة وسعادة وسرور.
> إنه الصبر ممتد المفعول.. وهو يحتاج إلى الإحسان إلى الخلق والتعفف عن الثأر وطلب الانتقام.. وترك التحدث عما أصابك من سوء لتتحدث عن الحكمة التى ألهمك الله إياها فى السجن.
> فمدرسة الابتلاء طويل المفعول مدرسة عظيمة تخرج فيها أئمة الهدى جميعاً.. فلولا صبر يوسف عليه السلام يوم أن همت به امرأة العزيز وصبره فى السجن ما نال وسام «يوسف أيها الصديق».
> ولولا صبر عمر بن عبدالعزيز طويل المفعول على ملذات الحكم ومغريات السلطة وهو يحكم نصف الكرة الأرضية ما حصل على وسام «الخليفة الراشد الخامس».. آه ما أجمل الصبر وما أقساه أيضاً.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د/ أسامة ناصف
تعليق و رجاء
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرى بحب مصر
اثابك الله وعوضك بالخير
اثابك الله وعوضك بالخير
عدد الردود 0
بواسطة:
هدى كامل
حقاً الصبر ضياء
عدد الردود 0
بواسطة:
هدى كامل
حقاً الصبر ضياء
عدد الردود 0
بواسطة:
د/ ناجح إبراهيم .. كاتب المقال
رسالة محبة وشكر للدكتور/ أسامة ناصف
عدد الردود 0
بواسطة:
هاله
الاكثر احتراما