لم يكن البرلمان «المنحل» مجرد كيان برلمانى عادى، يمكن تجاوزه دون قراءة إفرازاته التشريعية والإجرائية ومردودها على كل من الثورة والثوار والمواطن، خاصة أنه كان الأكثر إثارة للجدل بين كافة أطياف المجتمع المصرى، سواء من ناحية أغلبيته الإخوانية والسلفية التى جعلت البعض ينفى عنه صفة (برلمان الثورة)، أو من ناحية مدته التشريعية القصيرة، والتى امتدت من 23 يناير 2012م إلى أن انتهت بحله من قبل المحكمة الدستورية العليا فى 14 يونيه الفائت.
وبعيدًا عن ملابسات تكوين البرلمان «المنحل»، وكذلك ظروف حله المثيرة للدهشة، وهى ليست مجالنا الآن لتفنيدها وتفكيكها، يبقى أنه كان وسيظل برلمانًا جاء معبرًا عن إرادة الجماهير المصرية فى انتخابات حرة نزيهة بشهادة الجميع (حوالى 27 مليون مصرى ذهبوا إلى صناديق الاقتراع لاختيار أعضائه)، والتى تكفل وحدها - حسب تقديرى- أحقية عودته للانعقاد احترامًا وتقديرًا لاختيارات الشعوب التى هى مصدر السلطات.
ورغم الظروف الاستثنائية التى نشأ فيها برلمان ما بعد الثورة، وعدم تمتعه بفترته كاملة، وكذلك التكالب الإعلامى عليه، فى محاولة يبدو أنها نجحت فى تشويه صورته أمام الجماهير، فإن إفرازاته التشريعية وإجراءاته الرقابية التى أقرها كان لها بالغ الأثر على المواطن المصرى العادى، فبحسب متخصصى الشأن البرلمانى، حقق ذلك البرلمان، رغم قصر مدته ما لم تُحققه برلمانات مصر السابقة، لا سيما فيما يتعلق ومصالح المواطن البسيط.
فمن الناحية التشريعية، استطاع ذلك البرلمان إصدار أكثر من عشرين قانونًا، من أبرزها قانونى زيادة تعويضات أسر الشهداء والمصابين بعجز كلى من 30 ألف جنيه إلى 100 ألف جنيه، وتعديل بعض أحكام قانون التعليم بجعل شهادة الثانوية العامة عامًا واحدًا بدلًا من عامين، وكذلك تعديل بعض أحكام قانون العاملين المدنيين بالدولة للعمل على تثبيت العاملين المؤقتين، وذلك على درجات مالية دائمة، أضف إلى ذلك اعتماد الحد الأدنى للأجور 700 جنيه فى المرحلة الأولى والحد الأقصى للأجور 35 ضعف الحد الأدنى، وأخيرًا تعديل قانون تنظيم الانتخابات الرئاسية وإصدار قانون العزل السياسى.
كما اتخذ البرلمان ذاته حزمة من الإجراءات الإصلاحية، فعمد إلى حل مشكلة الحوالات الصفراء، وألزم الحكومة بدفع التعويضات لمضارى الحمى القلاعية، وسعى إلى تأسيس الهيئة العليا للحج والعمرة، وتكوين لجان تقصى حقائق فى مجزرة بورسعيد، واتفق مع بعض دول الاتحاد الأوربى على تطهير الأراضى المصرية من حقول الألغام، وغيرها الكثير والكثير من مثل هذه الإجراءات.
والملاحظ مما سبق أن معظم إفرازات البرلمان السابق التشريعية منها والإجرائية لا تخرج عن كونها قوانين وإجراءات إصلاحية بالأساس، إذ بمقدور أى برلمان يمتلك قدرًا من الضمير والمسئولية الشعبية إقرارها، وذلك بحكم الوظيفة التى جاء من أجلها، وهى ترجمة متطلبات ورغبات وتطلعات الشعوب إلى قوالب تشريعية قانونية.
ولكن للأسف لم يستطع البرلمان، بجانب القوانين الإصلاحية سالفة الذكر، إقرار مشاريع قوانين أو اتخاذ إجراءات ذات طابع ثورى! تتخذ من الشرعية الثورية مبررًا للانطلاق والإقرار، فإجراء سحب الثقة من حكومة الدكتور «كمال الجنزورى» الذى قد يدخل فى إطار الإجراءات الثورية لم يكتمل، والأغرب أنه بعد عاصفة الاستجوابات التى بلغت نحو 185 استجوابًا لسحب الثقة من حكومة «الجنزوري»، ساد الهدوء وأصبح الرضا بين الطرفين (الحكومة والأكثرية البرلمانية) هو سيد الموقف، وذلك دون وضوح لأسباب التحول فى العلاقة بينهما.
أما قانون العزل السياسى الذى أقره البرلمان المنحل فى 11 إبريل 2012م، والذى أوقف فلول النظام السابق عن مباشرة حقوقهم السياسية، وبغض النظر عما أثاره حينها القانون من جدل بين الفقهاء الدستورين حول دستوريته من عدمه، فإنه وفقًا لمعايير الثورة والثوار، كان بمثابة القانون الثورى الحقيقى الذى تأخر البرلمان فى تمريره وإصداره كثيرًا.
وقد تحمل مبررات صحوة البرلمان بإصداره قانون العزل السياسى، أكثر من معنى أو تفسير، إذ يمكن القول إن التيار الإسلامى بالبرلمان أدرك حينها الخطأ الذى أوقع فيه البرلمان بتحويله من برلمان ثورى إلى مؤسسة إصلاحية لا تتناسب والظرف الثورى الذى تعيشه البلاد، وأرادوا بقانون العزل تصحيح الأخطاء والعودة مرة أخرى إلى أحضان القوى الثورية.
كما أنه يمكن أيضًا تفسير هذه الصحوة البرلمانية، بأن التيار ذاته أراد بهذا القانون مصلحته الذاتية، إذ رأى فى فلول النظام السابق، خاصة فى شخص من يُشار إلى أنه كان سببًا وراء تمرير قانون العزل، خطرًا على مصالحه ومكتسباته التى حصدها جراء الثورة، ففزع وسارع للدفاع بما يمتلكه من أسلحة (التشريع) عن مكتسباته، مستغلاً حالة الرفض الجامعة التى أصابت مختلف أطراف اللعبة السياسية فى مصر لترشيح نائب الرئيس السابق، وما يدعم ذلك هو عدم انتفاض هذه القوى بالقدر الكافى عند ترشح رموز آخرين من النظام السابق (الفريق أحمد شفيق).
ولا يمكن هنا تجاهل مواقف البرلمان (المخزية) أمام قضايا بعينها، إذ شن هجومًا عنيفًا ضد الثورة والثوار (حادثة العليمى نموذجًا)، كما تقاعس البرلمانيون الإسلاميون عن إدانة المجلس العسكرى الذى يحمل قدرًا كبيرًا من المسئولية فى أحداث (ماسبيرو، ومحمد محمود، وغيرها)، والأكثر من ذلك كم الاتهامات التى ساقها البرلمانيون للثوار، فاتهموهم بالبلطجة والعمالة وتعاطى المخدرات.
ورغم ذلك تبقى حقيقة أن حل برلمان ما بعد الثورة، بجانب أنه تسبب فى إهدار الملايين من الأموال، وكذلك الأصوات التى ذهبت إلى الصناديق، تسبب كذلك فى حدوث أضرار بالغة لحقت بماكينة التشريع، التى حُصرت بحكم الإعلان (المكمل) فى يد عدد قليل من العسكريين.
فقد كان من الأصلح أن يمارس البرلمان المنتخب مهامه التشريعية لحين وضع الدستور الجديد، وهو ما احتواه مضمون قرار مرسى بعودة البرلمان، ولكن يبدو أن احتواء البرلمان لأكثرية إخوانية من جانب، وكون الرئيس مرسى منتميًا للإخوان المسلمين من جانب آخر، أعلى من أصوات وصياح رافضى البرلمان، دون النظر إلى ضرورات ممارسة البرلمان لمهامه.
* باحث فى الشئون السياسية