فكرة الانتحار فى الطفولة اقتلعت النوم من جفونى، فلقد كان لنا جار شاب حاول الانتحار وفشل، وتحول بالنسبة لمن هم فى عمرنا إلى شخصية غامضة بل مخيفة إلى حد ما، ومن الغريب أن اسمه كان «منشد» وهو اسم لم أسمعه بعد ذلك، وطبعاً ولا قبل ذلك، ورغم أن الاسم جميل ويدل على حس فنى عند أحد الوالدين أو كليهما، فإن غرابة الاسم زادت فى الإحساس بالوحشة، وكم تساءلت: لماذا يقتل الإنسان نفسه؟ وكان ذلك قبل أن أسأل: لماذا لا يقتل الإنسان نفسه؟! كنت أبحث فى الروايات والقصص عن شخصيات متوترة. وكنت أتساءل عن الدوافع لهذا الفعل الذى يناقض الطبيعة البشرية. فالإنسان يتشبث بالحياة مهما كان، وقد لاحظت الخوف من الموت حتى على من تجاوزوا الأعمار الكبيرة، وكنت أعرف أحدهم طعن فى السن وصاحبت نهايته كوارث عائلية، فكان يصلى ويدعو الله أن يعجل بنهايته، وصادف أننى كنت معه فى المستشفى فى مرضه الأخير، وكانوا يأخذونه إلى غرفة العمليات فإذ به يرتعش من الخوف.
ولاحظت والفكرة تتابعنى أو ربما أتابعها أن الإنسان حريص على حياته، وكذلك الحيوان، وحتى الأسد من الممكن أن ينسحب إذا رأى أنه قد يفقد حياته، بالطبع أستثنى من هذا الذين يقدمون حياتهم فداء لأوطانهم أو آرائهم أو دينهم، أو يدافعون عن أطفالهم أو من يحبون.
وهكذا انتهت الفكرة بغموض زاد مع السنين، وعندما رأيت ما تراه أنت فى كل يوم تساءلت: هل نحن أمة تقدم على الانتحار؟!
والسؤال الذى يؤدى إليه: هل تنتحر الأمم؟
كثير من الدول فى العالم القديم يبدو أنها كانت تنتحر ولا يبقى منها إلا ما تلتقطه الذاكرة من الانتحار الأسبرطى بالمقارنة بالحياة اللاتينية، وهذا ما غلب فى النهاية أيضاً على كل من فى اليونان.
وربما كانت فكرة النازية تجربة انتحار واضحة، فلقد سعت من البداية إلى «ألمانيا فوق الجميع» وحاول قلة من البلهاء نقل الشعار إلى بلادهم، لقد سعى هتلر إلى تسيد ألمانيا على القارة الأوروبية لأنها بمثابة القلب داخلها، وما دامت قد حكمت أوروبا فهى الحاكمة للعالم كله، مرتكزة فى نظريتها هذه إلى أفكار فلسفية وثقافية وعلمية بل فنية، والسؤال هو لماذا تريد دولة أن تكون «فوق الجميع» قد تفكر فى أن تسبق الجميع أو تتميز عن الجميع فى كذا أو كذا، وهذا مشروع بين الدول، وأذكر أننى فى الخارج احتجت إلى ملابس قطنية فقال لى البائع أن أفضل الأنواع عندهم السويسرى والمصرى، وآنئذ أحسست أننى أتيه على الدنيا كلها، وعندما أشاهد فيلما أمريكياً ويلاحظ أحدهم أن عامل البناء يبالغ فى عمله فيقول له: أتظن أنك تبنى الأهرامات؟! أتيه على الدنيا كلها، وعندما أعرف -ومعلوماتى معدومة فى كرة القدم- أننا أدخلنا هدفين فى البرازيل، وما أدراك ما البرازيل أتيه على الدنيا كلها، رغم هزيمتنا.
هذا لا يعنى أبداً أننى مثل النازيين أريد أن تكون مصر فوق الجميع، أنا أريد أن تكون مصر مع الجميع بالطبع ما عدا إسرائيل. وإذا تتبعت ما حدث فى ألمانيا النازية منذ عام 1939 أو قبل ذلك بسنوات وحتى عام 1945 سترى أمة قوية باسلة تمتلك العلم والتكنولوجيا والأسلحة لكنها تندفع إلى الانتحار دون إدراك، فلا أحد يصطدم بالعالم كله، ولقد انتهت ألمانيا النازية نهاية بشعة فلقد دمرت كل مؤسساتها وبيوتها واقتصادها، وحتى زعيمها هتلر انتحر فعلاً.. وانتحرت معه عشيقته، ومن سير الأحداث وما تناقله الشهود وافقت العشيقة على الانتحار مع زعيمها ما أشك فيه أن كلب الزعيم وافق على الانتحار، ولكن الزعيم قتله حتى لا يعانى بعد انتحار الزعيم.
ولولا أن الشعب الألمانى كان محباً للحياة وأعاد بناء بلاده من الصفر لما صارت ألمانيا واحدة من أفضل بلاد العالم فى كل شىء.
والتجربة التى عشناها جميعاً كانت انتحار عراق - صدام، فلقد استطاع صدام أن يصل بالعراق إلى دولة قوية ذات اقتصاد متين، وأذكر أننى كنت هناك ذات مرة وعانينا كثيراً فى بغداد من كثرة المشروعات فى كل مكان، وقيل لنا أنه سيكون هناك مؤتمر قمة فى بغداد قريباً، وستقام فنادق فاخرة لذلك، ولم يكن آنذاك هناك فندق خمس نجوم سوى فندق المنصور الشهير بعد ذلك، وانتهت عشرات الفنادق الكبرى، وأظن أن المؤتمر لم ينعقد!
ولكن العراق - صدام بدأ فكرة الانتحار تجربة بحرب طويلة مع إيران.
لم تكن الفكرة مفهومة، بالطبع هناك أسباب لهذه الحرب مثل الصراع التاريخى ومثل الخطوط الحدودية، ولا يوجد بلد عربى دخله الاستعمار إلا وله مشكلة حدودية فعندما خرج الاستعمار البريطانى أو الفرنسى ترك قنابل حدودية موقوتة، لكنها لو أثارت حروبا لقلنا أن الأمور زادت عن حدها.
ولما انتهت الحرب العراقية - الإيرانية بعد نحو عقد من الزمان كان العراق قد أنفق المليارات، وحكى لى أحد الأصدقاء العراقيين أن تجار السلاح كانوا يأتون إلى بغداد يعرضون بضائعهم، وبالطبع كانوا يذهبون أيضاً إلى طهران، وأحيانا -على ما حكى صديقى- كانوا يشترون أسلحة لا حاجة لهم بها خشية أن يشتريها الطرف الآخر.
وعندما أسدل الستار على الانتحار الأول كان المسلمون منقسمين بين العراق وإيران.
أما الفصل الثانى فكان قمة الكوميديا السوداء فلقد غزت العراق دولة الكويت دون أسباب واضحة، ولا مطالب محدودة، ولا خطة مدروسة انزعج الزعيم فأمر القوات أن تزحف على الكويت دون أى خطة أو أهداف. وبالطبع أثار هذا العالم وحتى شباب شارعنا آئنذ الذين رتبوا أنفسهم لخدمة المضارين من هذا الغزو.
وهكذا تهيأت العراق بحربين لا فائدة لهما ولا غاية للانتحار وأظن أن ما فى العراق الآن هو آثار الانتحار: تقسيم ونزوح بشرى، وأحداث عنف، وخلافات طائفية وتراجع فى الدور السياسى.
وأظن أننا على وشك محاولة الانتحار.
لا نسعى لحل مشكلة الأمن مثلاً يا راجل إحنا أحسن من غيرنا، وإذا سرقوا سيارتك وألقوا بك فى الصحراء، فالحمد لله على عمرك وكلها عشرة آلاف جنيه أو عشرون ألف جنيه تدفعها للوسطاء سيعيدون لك السيارة ماعدا سلسلة المفاتيح، نعم.. هى مشكلة ولكن إيه يعنى! البنزين مشكلة عندما يريد اسمه إيه أن يعمل مشكلة طيب لماذا لا تضعون حلولاً دائماً، يا راجل أنها تتحل فى يوم.. اتنين.. تلاتة.. أربعة لا أكثر.. نعتبر المشاكل كلها مقدور عليها.
ومشاريعنا كلها وهمية ويقال إن المشاريع التى يعدون لها هى «مولات» بتبيع بأسعار أقل، وهناك شىء اسمه الخطط الاستراتيجية مثلما فعل محمد على عندما حكم مصر، أو إسماعيل عندما حاول أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، أو طلعت حرب الذى بنى اقتصاداً من لا شىء أو جمال عبدالناصر وما أدراك ما جمال عبدالناصر الذى خلق صناعة قوية.
لا أهمية لمن يملك العقلية الاستراتيجية المهم ذواتنا، من نحن وما نصيبنا من الكعكة ومن لم يختطف شيئاً الآن لن يجد ما يخطفه بعد ذلك.
ماذا تريد؟ انتزع ما تريده الآن، لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، البلد فى حالة نهب، هل أنت على رأسك ريشة.. انهب معنا وكن حليفاً.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة