فى مواجهة الأزمة الاقتصادية التى تمر بها البلاد، من حيث استمرار حالة التضخم والبطالة والعجز الدائم فى الميزان التجارى، لم تجد أول حكومة للثورة بعد انتخاب رئيس الدولة من وسيلة إلا اللجوء إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولى. ومن المعروف أن هذا الصندوق الذى أنشئ عام 1945 يستهدف المحافظة على النظام الرأسمالى، ومحاربة سياسة الحماية الاقتصادية التى قد تلجأ إليها الدول لمواجهة العجز فى الميزان التجارى، بتقديم القروض لها بشرط الاستمرار فى الأخذ بآليات السوق، وإلغاء دعم مستلزمات الإنتاج. وفى كل الأحوال لا تؤدى قروض الصندوق إلى معالجة مشكلات التضخم مادام الاقتصاد لا يمضى فى طريق إقامة المشروعات الإنتاجية البعيدة المدى.
ويبدو واضحا أن حكومة هشام قنديل لا تدرك خطورة «روشتة» الصندوق على الاستقرار الاجتماعى فى مصر، إذ تقدمت بطلب للصندوق فجاء وفد للتباحث بشأن برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى سوف يتعين على مصر تطبيقه لتقديم القرض. وما يعنينى فى هذا المقام أن رئيس الحكومة يقول مفتخرا: «إن وصول وفد من الصندوق بهذا المستوى يعد رسالة إيجابية، ليس فقط لمصر بل للعالم أجمع من أن مصر استقرت اقتصاديا، وأن اقتصادها يتجه إلى التعافى..»، وأكثر من هذا يقول: «إن الاقتراض الخارجى هو الحل لمعالجة الموازنة ودعم الاستثمار والمشروعات الصغيرة..» «الأهرام 23 أغسطس الجارى»، ولأنه يعلم أن المراقبين يحذرون من خطورة تلك الشروط على مجمل الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية، نجده يقول من باب طمأنة الخائفين: «إن برنامج الإصلاح الاقتصادى مصرى 100%»، وتلك لعمرى مفارقة تراجيكوميدى، لأن هذا البرنامج حتى لو كان مصريا خالصا، فلن يخرج عن سياسات إلغاء الدعم على مستلزمات الإنتاج، وليذهب الفقراء إلى الجحيم.
والسؤال: لماذا نستسهل الاقتراض من الخارج ونستصعب الحلول الذاتية، مع أنه سبق تجريبها من قبل؟. فعندما تسلّم ضباط يوليو 1952 الحكم كانت خزانة الدولة تعانى عجزا ماليا قدره 25 مليون جنيه، فماذا فعلوا؟.. لم يلجأوا لصندوق النقد الدولى، وما كان أسهل ذلك، لكنهم عالجوا العجز بحلول داخلية، ففى 12 أغسطس 1952 تقرر فرض ضريبة 10% على المبالغ والتحويلات المرخص بها للمسافر إلى الخارج، وزيادة الضريبة على الإيرادات العامة بالنسبة للشرائح العليا، وعلى الأرباح التجارية والصناعية والمهن الحرة «1952/8/18»، والعمل على اجتذاب رأس المال الأجنبى للمساهمة فى عمليات التنمية الشاملة، وليس فقط فى مجال الخدمات، فتقرر بالقانون رقم 120 لسنة 1952 تخفيض نسبة رأس المال المخصص للمصريين فى الشركات إلى 49% بدلا من 51%، وهى النسبة التى كانت مقررة منذ 1947 بهدف تمصير الاقتصاد المصرى، والسماح بإعادة تحويل رأس المال الأجنبى إلى الخارج فى حدود 20% سنويا من قيمته بعد خمس سنوات من تاريخ وروده، وكذلك تقييد الاستيراد وتخفيض رسوم التصدير. وبفضل ذلك تحسن الميزان التجارى، وكان العجز فيه عام 1952 قد بلغ 72 مليون جنيه، وانخفض فى 1953 إلى 37 مليون جنيه، وإلى 20 مليونا و600 ألف جنيه فى عام 1954، ثم إلى 11 مليونا فى 1957، وهو أقل عجز منذ عام 1941.
أما الآن، ورغم الثورة، فلا أحد يفكر فى الحلول الذاتية، إنما استسهلنا الاقتراض دون دراية بالتبعات، وانشغلنا بتحريم الاقتراض، أو بتحليله. فعندما فكرت حكومة الجنزورى فى الاقتراض من الصندوق رفض مجلس الشعب وقتها باعتباره ربًا محرما، فلما أقدمت حكومة هشام قنديل على نفس الخطوة صدرت فتوى إباحة الاقتراض وفق قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وهكذا تأتى الفتوى حسب مقتضى الحال.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
صـفـوت صـالـح الـكـاشف
//////// أعتقد بإستحالة فرض ضرائب جديدة ////////