هذه واقعة لا تعنيك فى شىء، ولكنها قد تداوى شيئا ما داخل قلبك.
أحب القدر، لأنه الباب الوحيد للخروج من نفق الملل الدنيوى، قد أغضب منه، وقد أشكوه إلى الله وأطلب اللطف فيه، ولكننى لا أحب الاعتراض الصريح على مفاجآته، لأنه منحنى على مدار السنوات الطويلة الماضية الكثير من التفاصيل المفرحة والمشوقة أيضا، هل أعود إلى القصة من بدايتها حتى تفهم ما سبق من سطور؟ تعال وركز لكى تفهم.
لم أكن أعرفها ولم ألتق بها قبل ذلك اليوم، هى فتاة لم يتجاوز عداد العمر بالنسبة لها رقم 11 شهرا، مدفونة فى حضن أمها وتطل على بعينيها بين كل دقيقة وأخرى بنظرة غير مقصودة ولكنها غارقة فى «الحنية» والطيبة، أما أمها فهى واحدة منكم، واحدة ممن تشارككم متعة القراءة والتعليق على ما ينشر فى هذه المساحة من كلمات، تعرفت على بعد شك فضحته النظرات، ثم ناقشتنى فى بعض ما كتبت، ثم قفزت أنا فوق تلال تلك الكلمات وأقمت علاقة عاطفية سريعة مع صغيرتها التى تفيض عيناها بخليط إنسانى راق وطفولى، ولكنه للأسف ممزوج بالمرض، كان جسدها الصغير يستعد لمعركة قاسية داخل غرفة العمليات.
ثم افترقنا.. هى لكى يتم تجهيزها استعدادا لجراحة تهدف لإنقاذها من مأساة مرضية، وأنا لكى أقوم بأداء واجب زيارة المريض يتخلله سير بين الطرقات لقتل نبضات التوتر التى تسيطر على كلما دخلت مستشفى أو قررت زيارة مريض حالته حرجة، وفى وسط إحدى رحلاتى بين الطرقات لمحتها بصحبة الممرضة تطلبان «أسانسير» غرفة العمليات، فدعوت وشددت فى مناجاتى، ثم عدت لكى أواصل رحلة قتل التوتر بين الطرقات.
توافدت الزيارات وزادت مساحة التفاصيل، وأجبرنى النوم على السقوط على أقرب كرسى ومنح عينى بعضا من الراحة، لم يشق صمتها سوى صرخة مدوية شدتنى إلى حيث غرفتها لأجدها على الأرض تتلوى بكاء على ابنتها وتقبل يد الطبيب من أجل إنقاذها، سرقت عينى ورحت بها بعيدا عن الغرفة حتى لا أشاهد تفاصيل الموقف، ذهبت إلى نفس الطرقات أطارد خوفى وأسعى لقتله كما قتلت توترى فى نفس مسرح الجريمة منذ قليل، الصرخات ونحيب الجدة العجوز وعصبية الأب المهموم وهرولة الممرضات والأطباء جعلت من مسرح الجريمة مكانا غير مناسب لقتل التوتر أو القضاء على الخوف.
استسلمت لقوة الجاذبية الصادرة عن الأرض وسقطت غارقا فى بحر من الدموع شارك فيه رواد مستشفى جاءوا من كل فج عميق، ولا يعرف الآخر عن الآخر سوى أن من بجواره إنسان.. بعضهم كانت تتدلى الصلبان من رقابهم، وبعضهم اختفت معظم ملامح وجوههم خلف نقاب أسود أو لحية طويلة، الكل سقط فى بحر دموعه، والكل رفع يده للسماء على طريقته، وتحول المكان إلى غابة إنسانية يهرول فيها من يهرول من أجل إحضار «أسانسير» غرفة العمليات ولا شىء مسموع غير همهمات الدعاء والبكاء.
مضى الوقت وجاء ببشرى أن قلب الطفلة الصغيرة عاد ليمارس هوايته فى النبض مرة أخرى، كان واضحا أن الله قد استجاب لتلك الهمهمات التى ملأت المكان، وكان واضحا أنه سبحانه وتعالى لم يترك تعب الأطباء ليضيع هباء، فأعاد لقلب الفتاة النبض مرة أخرى وأعاد لعشرات الأسر الحاضرة الهدوء والسكينة مرة أخرى.. وأعاد لى أنا تحديدا فرصة الفرحة بتلك النظرات الحانية التى غمرتنى بها طفلة لم يربطنى بها سوى لقاء واحد عابر وبعض المداعبات التى نتقنها ونظن أنها تبهر الأطفال.. ادعوا لها بما تيسر وادعوا الله أن يلطف بنا القدر فى لحظات قسوته لأننا أضعف مما نبدو عليه، أو مما نعتقد أننا عليه.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب
فعلا الانسان كائن ضعيف لا يملك الا لسانا يشتم فى شبابه وصحته ويصرخ فى عجزه ومرضه
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
نورا
قلوب الأطفال تعري ضعفنا
فعلا نحن أضعف كثيراً مما نبدو عليه
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود
انسان
بجد والله انت فعلا انسان وربنا يكرمك
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرية جدا
لولا الأمل ما أرضعت أم طفلها