لا شك أن خليطًا من مشاعر الغضب والغيرة، بل التقزز، هو ما يسارع إلى قلب وعقل أى مسلم طبيعى حين تُهان مقدساته، ويُستهزأ بدينه، ويُسب قدوته وإمامه بهذه الطريقة الحقيرة التى يُصر البعض على استفزاز المسلمين بها من حين إلى آخر.
ولا شك أيضًا أن هذا يُعد امتهانًا غير مقبول فى كل الأعراف والشرائع التى يدين البشر بها، ويتعارفون عليها. بل تجد أحيانًا بعض الأفكار والأحداث التاريخية يُعد مجرد الحديث حول ثبوتها خطًا أحمر لدى مجموعات بشرية تنافح بكل ضراوة إذا ما تم تجاوزه، وحال النفوذ الصهيونى المتغلغل فى مفاصل المنظومة العالمية يعد مثالاً واضحًا لسياسة الخطوط الحمراء، خاصة إذا تم الاقتراب من مَبكى «الهولوكوست» أو لاحت فى الأفق تلك المعاداة المعلبة للسامية.
ورغم أن الهولوكوست ليست ديانة، ولا رمزية مقدسة لها، ورغم أن معاداة طائفة غاصبة للحقوق، منتهكة للحرمات ليست تهمة فى أى منطق مستقيم، إلا أننا نجد تلك المنظومة العالمية ترضخ لتلك المعايير الصهيونية، وتضع ألف حساب للغضب اليهودى حال تجاوز تلك الخطوط ﺍﻟﺤﻤﺮﺍﺀ. إذن فقضية الغضب لمثل هذه النوعية من الانتهاكات والاعتداءات يُعد أمرًا معتبرًا، ومعترفا به، خصوصًا إذا صدر عن صاحب قوة وتأثير. المشكلة إذن ليست فى الغضب كشعور طبيعى، بل صحى فى بعض الأحيان، المشكلة فى تفعيل ذلك الشعور النابع عن الحب والتعظيم، واستثماره فى شكل طاقة إيجابية خلاقة، وليس مجرد تفريغ شحنات لحظية تُرضى المرء أمام نفسه، وتجعله ينام قرير العين، وفى اعتقاده أنه قد أدى ما عليه ورد على تلك الإهانات الموجهة للعالم الإسلامى. نعم للعالم الإسلامى. تلكم هى للأسف الحقيقة المُرة، الإهانة وإن كانت تبدو فى الظاهر موجهة لشخص النبى صلى الله عليه وسلم، إلا أنها فى الواقع ليست كذلك. النبى قالها يوم أن سبه المشركون، وبيّـن أنهم إنما يدعون «مذممًا»، وهو محمد صلوات ربى وسلامه عليه. بل قالها مولاه جل وعلا من قبله، وذلك فى مُحكمة من مُحكمات القرآن يحفظها الجميع: «إنا كفيناك المستهزئين».
وفى الموقف الأخير أيضًا نجد أن من ظهر بتلك الصورة المبتذلة والمقززة إنما هو رجل سفيه تافه لا علاقة له من قريب أو بعيد بالصادق الأمين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
ما حدث فى تقديرى إنما هو إهانة وُجهت من حفنة من الموتورين لأمة لم تكن عنوانًا مشرفًا لمنهج سيد المرسلين، أُمة عجزت أن يكون لها حد أدنى من المهابة والعزة والقدرة على التصعيد المُؤثر يُشبه أو حتى يُدانى ما لدى نائحى الهولوكوست. الواقع أنه إن لم يحدث مثل هذا التحرك الحاسم والمؤثر فلا أتوقع أن تتوقف تلك المهازل قريبا، هذا على الصعيد الخارجى.
أما التوظيف الأكثر إيجابية لتلك المشاعر الطبيعية بل الضرورية على الصعيد الداخلى فلا أجد أفضل ولا أكمل من التوجيه القرآنى المُحكم الذى خُتمت به سورة الفرقان، تلك السورة التى تكرر فيها كثيرًا لفظ «وقالوا» وذكر الله فيها بيانًا مفصلاً لشُبهات واستهزاء المشركين بحبيبه، فتجد التوجيه العجيب فى السورة والذى لم يسبق ذكره بين دفتى المصحف، توجيه للجهاد بالقرآن «فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا» ثم تختم السورة العظيمة بالتوجيه لصناعة النموذج القرآنى البديع، النموذج المتكامل الراقى الذى يُلجم رونقه، ونضارة وحيوية أخلاقه، وفكره، ومعاملاته، وعباداته، ألسن الخراصين، وابتذال المغرضين، نموذج عباد الرحمن، نموذج المجتمع المسلم المترابط الذى يُعنى بمعالى الأمور، ويترفع عن سفسافها قائلا للجاهلين سلامًا، هذا النموذج المتكامل الذى يجمع بين إخبات العباد ونقاء الزهاد، وبين اعتدال الناجحين وقصد المقسطين الذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كرامًا.
إلى غير ذلك مما ذُكر من الأخلاق العظيمة، والصفات الجليلة لهذا المجتمع الراقى بخصاله النموذجية، وبمعاملاته، وعباداته وعدله، وإقساطه. وهذا هو أبلغ رد على من ينتقصون مِن مُعلم هذه الأمة، أن نُثبت للدنيا أننا قد تعلمنا، وأن نكون عنوانًا وضيئًا لخاتمة الرسالات.
أما والحال على ما هو عليه الآن، والجفوة القائمة بين مجتمعاتنا وبين تلك التعاليم والأسس التى يقوم عليها هذا النموذج، فللأسف تكون الأمة قد شاركت من حيث لا تدرى فى تلك الإهانة لدينها وهى تصر أن تكون أسوأ عنوان لرسالة نبيها.