السلطة سرها باتع.. تجرى فى العروق فتمنحها قوة.. وقوة السلطة مطلوبة ما دامت تدور فى دائرة القانون، وتحقيق ما يصبو إليه الناس، ولكن حينما تجرى دماء السلطة فى الشريان الخطأ فإن احتمالات تشويه الكثير من المبادئ والأفكار القديمة أمر وارد، لأن التجارب أثبتت من قبل أن السلطة هى المكوّن الأقدر على التلاعب بجينات البشر، فهى من نقلت هتلر من مرحلة الرسم إلى مرحلة الديكتاتور الدموى، وحولت مبارك من موظف لا يرتدى سوى البدلة الصيفى الشهيرة، إلى طاغية يرتدى بدلا صُنعت خصيصا لأجله ومطرزة باسمه.
الكلام السابق كان لابد من العبور عليه سريعا قبل التعليق على تصريح المستشار أحمد مكى، وزير العدل، الذى أكد فيه نصا: «إن إهانة الرئيس تهمة تساوى تهمة القتل العمد، لأنه لابد أن يكون فى يد الحاكم سيف ليستعمله».
تصريح المستشار مكى لا يحتاج إلى كثير من الشرح، فمن المؤكد أنك أدركت حجم الفخ الذى نحن به قابعون، ومن المؤكد أنك تتذكر الآن كيف كان المستشار مكى واحدا من قضاة الاستقلال الذين أشهروا سيف النقد والمعارضة لنظام الرئيس مبارك، ومن المؤكد أنك تراجع تصريحات رجال الحزب الوطنى، وصحف سمير رجب، وإبراهيم نافع، وممتاز القط، والتى كانت تقول لنا منذ سنوات مضت كلاما مشابها لكلام المستشار مكى الآن حول اعتبار إهانة الرئيس أمرا من المحرمات.. ولعلك تتذكر الآن كيف كان المستشار مكى وغيره من رجال المعارضة المصرية ينظرون لتلك التصريحات بسخرية وشفقة على أصحابها، ويعتبرونها تمهيدا لصناعة طاغية جبار لا يقبل بالنقد، وغير قابل للمساس، خاصة حينما يقتصر استخدام أهل السلطة ومبرريها على كلمة «إهانة الرئيس»، دون شرحها وتعريفها وتحديد حدودها ومعالمها، والاكتفاء بتركها هكذا مصطلحا مطاطا يجوز تحريكه اتساعا وضيقا للإضرار بمن ترى فيه السلطة لحظة عدوا أو خصما.
كنت أتمنى ألا يتم استدراج المستشار الجليل أحمد مكى لهذا الفخ.. فخ ضمان هيبة الرئيس، والبحث عن حقوقه قبل البحث عن حقوق الناس وهيبة المواطن نفسه، كنت أتمنى أن يحدثنا سيادته عن جريمة إهانة المواطن المصرى، وأن يخبرنا المقدار الذى تتساوى معه جريمة انتهاك كرامته، وكنت أتمنى أن يخبر المواطن المصرى طبيعة هذه الإهانة التى تتساوى مع جرائم القتل العمد قبل أن يرهبه من الاقتراب من الرئيس وشخصه.. كنت أتمنى أن يكون سيادة المستشار أكثر حرصا على تحديد عقوبة السلطة حينما تقوم بإهانة المواطن قبل أن يعرف عقوبة المواطن حينما يتعرض للسلطة، وكنت أتمنى أن يضع معالم واضحة لجريمة الإهانة التى يتحدث عنها ليقضى على عصر التشريعات الفضفاضة، وعصر المصطلحات المطاطة التى كان هو أول من ينتقد استخدام الأنظمة لها بشكل يخدم مصالحها، ولا يخدم القانون.
كما قلت سابقا فى نفس المكان، أنا فقط أبحث عن ميزان عادل للتقييم، بدلا من التقييمات المتروكة لهوى أصحاب السلطة، أنا فقط أبحث عن إعادة تعريف لمصطلح إهانة الرئيس الذى ينتمى لفئة المصطلحات المطاطة التى يحركها الحكام لخدمة مصالحهم وحماية سلطانهم.
من المؤكد أن المستشار مكى، ومثله الرئيس محمد مرسى يعلمان تماما أن أعرابيا جاء للرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: «أعطنى يا محمد فهو ليس مالك ولا مال أبيك!» وكررها الأعرابى ثلاث مرات، فزاده الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: «أرضيت يا أعرابى؟»، فقال الأعرابى: «أشهد أن هذه أخلاق الأنبياء». ومن المؤكد أن مرسى يعلم أيضا أن أهل الطائف استقبلوا النبى الكريم بالحجارة حتى دميت قدماه الشريفتان، ولم يقصف رقبة أحدهم أو يسجن الأعرابى أو يمنعه العطاء.. فهل يعتبر المستشار مكى السابق من الكلام أمرا يندرج تحت بند الإهانة، وهل يقبل الرئيس مرسى أو أى مسؤول بالدولة أن أجذبه من بدلته بهذا الشكل، أو يقبل من أهل قرية منع عنها الماء أو الكهرباء القذف بالحجارة، أم سيرى فى ذلك إهانة لمقامه الرفيع؟!