عندما يكتب لينين الرملى مسرحية تكون دائما جديرة بأن تشاهد، فلينين الكاتب الكبير للمسرح والدراما والسينما من القلائل الذين يستطيعون أن يجعلوا اللغة العامية السهلة تحمل كثيرا من الدلالات وتبدو على لسان الممثلين فى جملها القصيرة كأنها نبضات من الصور الفنية الراقية، ويقع بذكاء يبدو فطريا ولكن وراءه ثقافة رفيعة على أفكار كبرى تتحرك أمامك كأنك تعرفها فتندهش كيف حقا كانت غائبة عنك وهى تمشى أمامك، وعندما يجتمع معه مخرج كبير مثل عصام السيد فأنت مع تاريخ من الإبداع والتجديد فى شكل المسرح وحركة الشخصيات واتساقها مع المكان والزمان، وهنا مسرحية أضيف لكاتبها ومخرجها الكبيرين مجموعة رائعة من الممثلين من كل الأجيال، بدءا من الرائع أشرف عبدالغفور إلى مازن الغرباوى – مفاجأة العرض – وأميرة عبدالرحمن مرورا بالأستاذ بحق سامى مغاورى، والمتألق دائما ماجد الكدوانى، وكل الطاقم الجميل المبدع كمال سليمان، ومحمد رضوان، وسيد الرومى، وسلمى غريب، والسيد الهنداوى، وبيومى فؤاد.
الفكرة بسيطة جدا لكن انظر كيف صارت وتطورت لتصبح نذيرا لا نراه ولم نتوقعه، هم جميعا أحفاد للجد الذى مات، لكل منهم أمل فى جزء من ثروته، الغنى منهم مثل أشرف عبدالغفور الذى لا يوقفه شىء عن المال، والمتظاهر بالتقوى مثل سامى مغاورى ومعه زوجته المقموعة سلمى غريب التى يحدد لها هذا النوع من البشر خطا لا تتجاوزه يبن الرجال ولا يدرون بتجاوزاتها، والمثقف محمد رضوان الذى يبدو حائرا مترددا، والمثقف أيضا ماجد الكدوانى الذى يقاوم الخرافات ولا يستسلم، والفقير البسيط مثل سيد الرومى، والضائع الممسوس مثل مازن الغرباوى. وهكذا نحن أمام مجتمع كامل من أعلى سلطة إلى شباب يحلم بغد أفضل، يفاجأ الجميع أنه لا ثروة تركها الجد. لا يستسلمون لذلك بسهولة، يتوزع الرضا والسخط عليهم بقدر مواقعهم فى الحياة ومواقفهم منها، بين الرضا والجشع، ليس أمامهم إلا البيت الذى تركه الجد، لكن فى البيت شبح. هكذا يشيع الذين يريدون بيعه أو شرائه من الجيران من البدو، البيت متاخم للصحراء فكأنه وطننا. الكل على درجات رغباتهم يقتنعون بذلك أملا فى التخلص منه وبيعه من أجل الثروة أو حتى الستر، لكن ماجد الكدوانى وحده يقاوم الفكرة حتى النهاية، ليس فى البيت شبح، رغم أن كل شىء حوله يؤكد ذلك، مايحاك من راغبى شرائه ورؤى الفتى الممسوس الذى يتحول إلى عرّاف يستقون منه المعرفة، بينما ماجد الكدوانى يضعه فى المكان الصحيح، يعانى من رؤى متسلطة، وحبيبة ماجد معه حينا وحينا تقتنع بما تراه مع الآخرين أو تسمعه – أميرة عبدالرحمن – وهو وحده يرفض الأشباح التى تحاصره ويرفض التخلص من البيت.. من الوطن، دون أن يقول لنا المؤلف كلمة وطن، بل نشعر بها وندركه من تاريخ البيت وتاريخ الجد وما تركه من كتب واعترافات، يأخذونه جميعا فى النهاية بعيدا وهو يصرخ فينا أن نلحق بالبيت قبل أن يضيع.
هذا العدد من الأبطال وحولهم كثير من الشخصيات الثانوية، وهذه الأحداث التى تتفرق بيننا على خشبة المسرح والديكور والإضاءة والموسيقى والغناء، كل ذلك يبدو لك سهلا لكن وراءه مخرج كبير دانت له خشبة المسرح من زمان فى زمن عز فيه الفن المسرحى، لحوالى ثلاث ساعات ولا تشعر بأى ملل، والجميع كأنما تخرجوا من استديو الممثل، أبناء إليا كازان الذين يمثلون ولا يمثلون فكأنهم بين المتفرجين رغم أنه ليس من الملامح البريختية فى العمل إلا مشهد واحد ينزل فيه ماجد الكدوانى بين الجمهور ولا يبتعد خطوات قليلة لكن توحّد بين الصالة والعرض نفسه وقبل النهاية بقليل حتى إذا نادى الجمهور مستغيثا فى النهاية نكون مستعدين للنداء.
المسرحية تدين الماضى الذى حمّلنا بالخرافات والحاضر الذى حمّلنا بالأطماع أو الضعف والحاجة، وتنتصر للرؤى المتقدمة التى تدرك هذا كله علميا وحياتيا ولا تنهزم أمامها والتى يمثلها ماجد الكدوانى، لقد خلص لنا البيت أو الوطن لكن هناك من يتربص به، المسرحية نذير أو إنذار ليس فيه كلمة سياسية، مفرداتها كلها من حياتنا وتتحرك شخوصها حسب مصلحتها أو قدرتها أو حتى ضعفها فكأنها الحياة بلا رتوش من المؤلف الذى لابد بذل جهدا كبيرا ليجعلها كذلك ويختفى صوته ويتحقق بالمسرحية التى يجعلها المخرج الكبير بدوره شيئا أليفا وهذا جهد رائع كبير.
تحية للجميع.. من ظهر أمامنا ومن لم يظهر من مصمم الديكور حتى المخرجين المساعدين وتحية للعزيز خالد الذهبى مدير عام المسرح القومى ونرجو أن نرى مسرحيات أخرى تثرى حياتنا المسرحية الراكدة.
وشخصيا سعدت كثيرا بالفنانين الكبار الذين رأيتهم من قبل كثيرا ومن لم يسعدنى الحظ برؤيتهم مثل محمد رضوان وأميرة عبدالرحمن ومازن الغرباوى وسيد الرومى، الذين أضافوا الكثير لبقية الطاقم الرائع الكبير.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة