استكمالا لمسلسل خلع الملابس، وفى وقت يضطر فيه العمال لخلع ملابسهم حتى يلفتوا إليهم الأنظار لمطالبهم المشروعة. فإذا بنا أمام نمط آخر من خالعى الملابس والعقول، ممن لا يجدون طريقا لجذب الأنظار سوى أن يغرقوا الناس فى جدال بلا معنى. مثلا فلان الذى قام وقعد وتمطى، وخرج لنا بما أسماه فتوى تحرم تأييد حزب الدستور، أو الانضمام للبرادعى، مستندا على ترهات وأغاليط تتجاوز السياسة والدين إلى التنفير. وهذه عينة من جدل ممتد من شهور حول تحليل وتحريم الوقوف للسلام الوطنى أو تحية العلم نقلنا إليه سياسيون ترشحوا للانتخابات، وهم أنفسهم كانوا يحرمون الترشح والانتخاب. وهو خلط يبدو أحياناً بهدف لفت الأنظار، والدليل أنهم لم يبادروا لتقديم ما يفيد فى مواجهة مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية، ولا يختلفون كثيراً عن صاحب فتوى أكل لحوم الجن، وتخليل لحم العفريت.
وإذا كان هناك من بين العمال من يخلع ملابسه مضطراً للفت الأنظار، فإن هؤلاء يتجاوزون ويخلعون عقولهم، ويطالبون الناس بإلغاء التفكير والمنطق. وكثير منهم يعلم أنه لا يمتلك علما أو خبرة فى أى مجال، وليس لديه ما يقدمه من أفكار أو مبادرات، أو علم ينتفع به. فيلجأ إلى التعرى الفكرى باحثا عن كل ما هو غريب وصادم ليشد إليه الأنظار، ويجدون من يروج بضاعتهم الغريبة، ومن يتفرغ لمناقشتها.
ولنتأمل كمية الجدل التى شهدتها الساحة السياسية وساحة الفتاوى طوال شهور، نكتشف أننا مضطرون للدخول فى مناقشات عبثية حول الوقوف والجلوس، لنكتشف أن تسعة أعشار الجدل قائم على تصريحات وبلاغات واستعراضات تتعرض لكل ما هو تافه أو فارغ.
ففى وقت يتعرض فيه الإسلام للهجمات وحملات تشويه فإذا بالسادة الزعماء والنجوم يجرورننا إلى جدل حول تحليل وتحريم الأحزاب أو كراهة الوقوف لتحية العلم والسلام الوطنى. لم يتطرق أحد منهم لحرمة إلقاء القمامة فى الشارع أو السير عكس الاتجاه أو الاعتداء على الشارع أو قطع الطرقات. ويفضلون الهزل والجدل الفارغ.
وفى وقت نعجز عن تنظيف شوارعنا، ونعانى من تجاهل القانون وتردى أحوال المستشفيات والمدارس والطرق، ناهيك عن أننا لا نملك من أمر أنفسنا شيئاً، ونستورد الإبرة والصاروخ والرغيف والدواء والسيارات والتوكتوك والتليفزيون الذى يطل علينا منه هؤلاء الجهابذة. ويزعمون أنهم علماء ويتحفوننا بفتاوى يحرصون على أن تتعرض لأمور تافهة وغير مطروحة. لقد كان الشيخ محمد الغزالى رحمه الله يقول عن هؤلاء: إن كل تدين يجافى العلم، ويخاصم الفكر، ويرفض عقد صلح شريف مع الحياة هو تدين فقد صلاحيته للبقاء. ويقول أيضا: إنى أكره إيمان الأغبياء لأنه غباوة تحولت إلى إيمان، وأكره تقوى العجزة لأنه عجز تحول إلى تقوى.
وبالرغم من تفاهة هؤلاء الذين يتناولهم الشيخ الغزالى، فإنهم يجدون من يستهلك بضائعهم المغشوشة، ويتكسبون من رفع شعار «اخلع عقلك تاكل ملبن»، ويواصلون خلع عقولهم، ويطالبون الآخرين بخلع العقل والمنطق.