أعجبنى كلينتون حينما رفض أن يدخل فى مواجهة مع الإعلام الأمريكى والصحفيين الأمريكيين الذين أصلوه جحيما من أقلامهم وكلماتهم التى كانت كالرصاص المصهور، وكان بعضهم يفعل ذلك بدافع وطنى وآخرون يفعلون ذلك تحت تأثير اللوبى اليهودى الإعلامى نكاية فى كلينتون لأنه انتقد إسرائيل كثيرا، وقلص من الدعم الأمريكى لها قدر استطاعته، وكان كلينتون يقول فى هذا الشأن: «ليس من الحكمة أن تعادى الصحفى، فليس هناك أرخص من مداد القلم الذى يشتمك به»، كما أن من قوانين العسكرية تقول: «إن الدبابة هى أفضل ما يواجه الدبابة والطائرة هى أفضل ما يواجه الطائرة»، فأفضل ما يواجه الصحافة هى الصحافة نفسها، وأفضل ما يواجه الإعلامى المحترف إعلامى محترف مثله، والفكرة لا ترد إلا بالفكرة، والقلم لا يحسن السجن مواجهته، ولا الرصاص أو القهر مواجهته، ولكنه يزيده شهرة فى هذا العالم المفتوح الذى تغمره الفضائيات ومواقع النت وعشرات الآلاف من صفحات التواصل الاجتماعى على الفيس بوك وتويتر وغيرها، وسجن الصحفى أو تقديمه لمحاكم الجنايات أو حبسه احتياطيا يحوله إلى بطل قومى ويزيد كتاباته شهرة ويجعل أفكاره معروفة للكافة والخاصة، وبعد أن كان يقرأ له العشرات يقرأ له الآلاف.
وأفضل شىء لعلاج تجاوزات النقد الهدام فى الصحافة أن يتربى جيل من الصحفيين يحمل فى قلبه مبدأين متلازمين هما: «الحرية التى تلازمها المسؤولية كظلها» ويكون مستقلا ماديا عن الأحزاب وعن الحكومة أيضا، وأن يتم الفصل بين ملكية الصحف والقنوات وبين تحريرها، وأن تنتهى قصة الصحافة القومية فى مصر تماما، فالكلمة بالذات لابد أن تكون حرة ولا تتبع الحكومة ولا تتبع الرأسمالى صاحب القناة أو الجريدة.
فكيف تبين الصحف عوار الحكومة أو سلبياتها إذا كانت وظيفة الصحفى وحياته ومرتبه وعلاوته مرتبطة ارتباطا كاملا بالحكومة ولا ترتبط بكفاءته، ولكنها تتعلق بالأساس بولائه، وما أشق ذلك على الصحفى الذى سيطلب منه تغيير ولائه كل عدة سنوات، فهذا ذل ما بعده من ذل، أو أن يكتب طوال عمره فى التوافه بعيدا عن الحديث عن أى موضوع جدى يخص الحاكم أو أتباعه، وأن يبتعد عن كل مناطق الحكم الحساسة، وهذه تتسع دائرتها كلما جلس الحاكم طويلا على الكرسى.
إن فلسفة مصادرة عدد أو عدة أعداد من صحيفة تتجاوز فى نقد الحكم أو الحكومة لا يعد حلا ناجحا أو مؤثرا، لوقف هذا النقد المتجاوز، ولكنه إعادة لفلسفة نظام مبارك فى التصدى لهذا الأمر، وهذه المصادرة ستزيد توزيع الصحيفة، وتساعد على شهرتها وذيوعها، وعندما صدرت صحيفة الدستور التى تطبع بالكاد 30 ألف نسخة صدر العدد نفسه فى اليوم الذى يليه وطبع منه 240 ألف نسخة وزعت بأقصى سرعة، وتلقفها القراء فى كل مكان حتى يعرفوا السبب الحقيقى للمصادرة، وبذلك لم تحقق المصادرة سوى عكس غرضها وزادت الطين بلة، والمعالجة الصحيحة للنقد المتجاوز هو وجود بديل إعلامى قوى ومهنى ومحترف وغير منحاز ولا يهلل ولا يطبل لأى شىء وينقد بموضوعية، ويشيد بأى إنجاز جيد فى الوقت نفسه، هذا إذا كنا نريد معالجة حقيقية للمشكلة، أما الآن فهناك طرفان فى مصر وعلى طول الدوام.. طرف يمدح الحاكم والحكومة على طول الخط ولا ينقدهما أبدا، وطرف آخر يحاربهما أبدا ويغض الطرف دائما عن حسناتهما وإيجابياتهما، وقد يحول هذه الإيجابيات إلى سلبيات كما حاول البعض أن يحول ثناء د. مرسى على الصحابة العظام مبينا فكر أهل السنة فى مصر وتمسكهم به وهى إيجابية عظيمة، حولها البعض إلى سلبية زورا وبهتانا.. إن أزمة الصحافة المصرية تحتاج إلى مقالات كثيرة، وهى أشبه بالفكر الإسلامى تحتاج إلى الوسطية والاعتدال بين وسطين متطرفين.. «مادح على طول الخط وذام على طول الخط، فهذا لا يعرف إلا اللون الأبيض، والآخر لا يرى إلا الأسود، مع أن الحياة عامة والحكم خاصة فيهما كل الألوان».