إبراهيم عبد المجيد

حتى لو بنيت سلماً إلى السماء!

الجمعة، 11 يناير 2013 07:16 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«بعيدا عن الزحام المجنون» عنوان رواية رومانتيكية عظيمة للكاتب الإنجليزى توماس هاردى. وهو عنوان الفيلم العظيم أيضا لجولى كريستى وتيرانس ستامب، الذى أخذ عنها فى سنوات الستينيات. ورغم موضوع الفيلم البعيد عن أحوالنا يطاردنى عنوان هذه الرواية دائما حين تزدحم الدنيا من حولى بالبشر والقضايا الفكرية. وفى العادة يستطيع الإنسان أن يلوذ بمكان هادئ بعيد يخلو فيه إلى نفسه أو إلى من يحب. كان هذا سر بقائى فى القاهرة لأكثر من خمس وثلاثين سنة حتى الآن. قدرتى أن ألوذ بمكان بعيد بعض الوقت.
بعد أن جرت وقائع الثورة العظيمة فى 25 يناير عام 2011 -لم يعد بقدرتنا الآن أن نقول العام الماضى ولا معنى للقول العام قبل الماضى- بعد وقائع هذه الثورة أصبحت مشدودا إلى القاهرة التى عشت فيها غريب القلب واليد واللسان، ونسيت كل رغبة فى راحة الجسم والعقل. صار تواجدى فى الشوارع والميادين وكتاباتى كلها عن وحول الثورة وما جرى بعدها.
فى لحظات ينتابنى اليأس، لكن أنظر حولى لأجد الشباب وأقول لنفسى حتى لو كانت الثورة وضعت أقدامها على الطريق الصحيح فلابد أنها ستحتاج لسنوات طويلة حتى تصل إلى تحقيق أهدافها لأن تركة النظام السابق تحتاج إلى سنوات من التطهر والتطهير. ولأنك ستعيش بعضا من هذه السنوات فلا بأس أن ترى العثرات فى الطريق، وكلها عثرات استعد بها النظام السابق بما فيها عثرة السلفيين والإخوان المسلمين!.
وهكذا لم ترقنى أبدا فكرة الابتعاد إلى الإسكندرية مثلا بعض الوقت ولا إلى غيرها وسافرت مدعوا إلى أكثر من بلد عربى وأوروبى وكنت أعود بسرعة كأنما هناك حاجة لوجودى، بينما لم يزد وجودى عن مقالات أكتبها وحضور للفعاليات السياسية فى الشوارع والميادين.
هناك الآلاف غيرى يفعلون ذلك إلا أننى هذا الأسبوع أحسست فجأة باكتئاب مفاجئ أعرف أنه لن يستمر طويلا. حدث لى كثيرا من قبل. ويحدث عادة للكتاب. اكتئاب بلا سبب يمكن أن ينتهى بلا سبب أيضا نسميه أحيانا قفلة الكاتب. لكنى رحت أفكر فى سبب. قلت ربما هو وفاة الكاتب الكبير الدكتور عبدالغفار مكاوى الذى قدم لمصر أعظم المؤلفات والترجمات فى الفلسفة والمسرح والشعر العالمى والفن التشكيلى، فضلا على كتابته الجميلة للقصة القصيرة. ولأن وداعة الرجل ودهشته وبسمته الطفولية وقفت فى الفضاء كثيرا أمامى.
أيام ولحق به المخرج والكاتب والأستاذ الجامعى العظيم مدكور ثابت الذى آلمنى جدا رحيله، وأننى يوم الجمعة -اليوم السابق لرحيله- هفت روحى إلى محادثته، وفى اللحظة التى أمسكت فيها بالموبايل رن فى يدى، ووجدت على الناحية الأخرى صديقا أخذنى إلى موضوع مربك من مشاكل يعانيها وانتهت المكالمة ونسيت شوقى للحديث إلى مدكور. فى اليوم الثانى فى منتصف الليل عرفت من الفيس بوك نبأ انتقال مدكور ثابت إلى السموات العلى. نمت كمدا، وفى صباح الأحد كانت الريح شديدة طوال النهار فرحت أمشى فى الشوارع فى منتصف القاهرة بين الريح، وأعرف أنها ستفعل ما كانت تفعله الريح فى الإسكندرية أيام شبابى الأولى وقبل أن أغادرها وستغسل أحزانى حتى لو افتقدت البحر. انشغلت باللقاء مع أكثر من شخص لكن مشيت أكثر الساعات حتى عدت إلى بيتى فى الحادية عشرة مساء وشوقى كبير أن أكتب شيئا ليس عن أى أحد لكن عن جبل وحيد فى أرض جليدية. شىء مثل الأولمب، وأنا فوقه بين الآلهة. وجسدت لنفسى الجبل بين الجليد واستوحيت جبلا فى كييف فى أوكرانيا صعدت عليه بين الجليد وسط الليل زمان ووجدت الآلهة التى أبحث عنها، لكن كانت وجوههم صورا من وجوه من أحببت وأحبونى فمضيت أتذكر أسماءهم وأرى ابتساماتهم وعيونهم رغم السنين الطويلة التى فرقت بيننا، ورغم الموت الذى اختار أكثرهم جمالا. قلت لهم ما الذى أتى بى بينكم الآن؟ قالوا لأننا نحبك نستجيب إلى ندائك لكن لا سبيل لك إلا أن تعود وتكتب. وتستمر تكتب عما ترى أنه الحق والحقيقة. وقفت حائرا وقلت كيف أستمر فى الكتابة مدافعا عن البديهيات العقلية مثل أن يكون الناس أحرارا. قالوا ضاحكين الحرية أبسط الحاجات وأصعبها. كيف نسيت أنه من أجلها مات الملايين. قلت مشكلتى مضاعفة لأننا نواجه سيلا من التفاهات والتصريحات البليدة وخيمة من الكذب أقامها النظام الجديد فوق الوطن. كيف لمثلى أن يسمع لمن يقول للناس كيف يأكلون وماذا يلبسون. وتوسلت أن يبقونى بينهم بعض الوقت نستعيد أياما جميلة كانت فيها الإسكندرية عروس الدنيا وكانت فيها القاهرة عريسها. كانت عطور النساء تمشى فى الطرقات والشوارع خالية والأرصفة نظيفة والناس ودعاء وأفيشات السينما تملأ الواجهات وفى الحدائق تعزف الموسيقى وعلى الشواطئ ملكات الجمال وعلى النيل سباقات اليخوت و.. و.. وأخذت أتذكر ما مضى فأوقفونى ووضعوا أيديهم على فمى. نظرت وفى عينى سؤال فأجابوا لو ظللت تستعيد الماضى ستبقى هنا قبل موعدك، مازال أمامك الكثير من الضجر. وانتبه كل ضجر إلى زوال. والحياة الحقيقية فى مصر الآن هى فى الزحام المجنون، ولا خروج منه إلا بانتهائه، ولن ينتهى بالابتعاد حتى لو فعلت ما قال عنه كيركجارد، الفيلسوف الوجودى الذى نضح على حياتك، وبنيت سلما إلى السماء، فلا هروب من الزحام المجنون.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة