الدين هو جزء من عالمنا المعاصر سواء فى الغرب أو الشرق، كان الافتراض الحداثى يقول إنه مع التوسع فى عملية التحديث سوف يتم اختفاء الدين وتراجعه. ولكن العكس حصل مع توسع التحديث حيث شعر الإنسان بالغربة والتهميش وأنه أصبح أسير ما يطلق عليه ماكس فيبر «القفص الحديدى»، ومن ثم فقد حاول أن يتحرر من هذا القفص بالعودة مرة أخرى إلى الدين وظهر فى العالم منذ السبعينيات ما نطلق عليه «الإحياء الدينى» –البعض ركز فقط على الإحياء الإسلامى ولكنه كان إحياءً دينيا عاما حتى فى أوروبا ذاتها– يمكن العودة إلى كتاب جيل كيبل الأصوليات فى الأديان الثلاثة. فى كل مناحى الحياة بدأت عودة الدين، ولم يعد الدين مخدرا للشعوب بل أصبح مصدرا للدفاع عن الحقوق ومقاومة المستبدين ودعوة للعدالة فى علاقات العالم ودوله، أصبح نداء المستضعفين فى مواجهة الظالمين والمستكبرين، فى عالمنا العربى والإسلامى وفى أمريكا اللاتينية وفى أوروبا الشرقية.
رفض الإنسان المعاصر فكرة السيولة التى أسست لها منطلقات ما بعد الحداثة، التى تعنى بشكل أساسى وجود نقطة مرجعية للإنسان يمكن أن يعود إليها حين يواجه مشكلة محيرة بالنسبة له، فحين نجعل الإنسان هو مرجعية نفسه نظلمه وهو نفسه يريد لنفسه أن تكون هناك نقطة مرجعية أعلى منه وهذا ما أشار إليه المفكر الفرنسى المعروف والماركسى فى نفس الوقت «آلان تروين» فى كتابه الرائع والمهم «نقد الحداثة» ماذا قال الرجل قال لا بد للإنسان من نقطة مرجعية يرجع إليها. وأضاف لابد للإنسان أن يكون فاعلا، فقضيته الرئيسية هى الذات الفاعلة كحركة اجتماعية، وهذا مدهش فى الواقع، لأن الدين يجعل من الإنسان هو الوحدة الرئيسية المسؤولة والفاعلة حتى لو كان وحده.. فالظلم والقهر والسجن والاستبداد لا يبرر للإنسان أن يقف ساكتا أو أن يكون شيطانا أخرس حتى لو قام بذلك وحده.. وحين حدثت الثورات فى العالم العربى كانت قيم الدين الرئيسية حاضرة، ورغم أن الشباب الذين قادوا الثورات ليسوا بالضرورة من المنتمين لحركات إسلامية ولكنهم بالأساس لم يكونوا علمانيين وإنما كانوا يستبطنون قيم الدين بين جوانحهم، فهم أبناء الطبقة الوسطى المصرية المتدينة تدينا متوافقا مع العصر والعالم. ثم لحق الإسلاميون المنظمون بالثورة فى بواكرها الأولى وتصدروا المشهد السياسى، وهنا انتقل هؤلاء الإسلاميون من عالم السياسات الصغيرة إلى السياسات الكبيرة، فهم يقودون الآن دولا ويخوضون غمار لجج صعبة وتجارب جديدة عليهم لم يكونوا قد تهيأوا لهم، وهنا فإن حاملى الدين ممن يخوضون غمار السياسة يواجهون تحدى الاجتهاد للعصر والعالم الذى يعيشونه ولا يمكن لهم أن يستسهلوا ويعودوا للماضى لكى يستجلبوا منه ما اجتهد به القدامى والسابقون لعصرهم.
نحن نعيش هذا العصر،وهو عصر يحتاج لاجتهاد، فبقدر ما هو ثورى وبقدر ما هو إنسانى وبقدر ما هو كونى وبقدر ما هو متصل بالمستقبل وبقدر ما هو متصل بالشباب بكل هذه المقادير فهو يحتاج لاجتهاد جديد، لعل أهم المساحات التى تحتاج لاجتهاد جديد من قبل أهل الدين الذين يخوضون غمار السياسة هى الموقف من الديمقراطية والطبيعة المدنية للفعل الإنسانى منطلقا من أسس دينية والموقف من الإنسان ومطلب الحرية والكرامة الإنسانية وهى مطالب للثورة، والمشاركة باعتبارها قيمة إنسانية وعالمية، هذا يحتاج لجهد فى الفكر وفى الممارسة لبناء نموذج أو على الأقل خبرة ينتظرها منا المحيطون بنا وهذا هو التحدى الخطير الذى ينتظرنا فى بلدان الثورات العربية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة