وعد محمد مرسى قبل أن يجلس على كرسى الرئيس جموع الشعب المصرى بإعادة محاكمة مبارك، وكعادته التى أدركناها بعد مرور الوقت، وبعد أن أصبح رئيسا.. أخلف محمد مرسى وعده، وأغلب الوعود التى قطعها على نفسه خلال فترة الدعاية الانتخابية وأيام حكمه الأولى.
وعد مرسى بإعادة محاكمة مبارك كان وعدا توريطيا، أراد من ورائه مداعبة المشاعر الثورية لدى شباب مصر من أجل الحصول على دعمهم فى الصندوق، ولكنه يحمل فى طياته الكثير من الدلالة على سذاجة صاحبه، وحداثة عهده السياسى والفكرى لأمرين لهما بكل تأكيد ثالث.
وعد الدكتور مرسى يحمل فى طياته إقرارا صريحا من رجل أقسم على حماية الحدود بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بأنه يسعى للتغول والتدخل فى شؤون القضاء من أجل إرضاء الشارع.
الوعد الرئاسى الخاص بإعادة محاكمة مبارك يحمل تشكيكا واضحا فى نزاهة المحكمة، والقضاء المصرى الذى تصدى لنظر هذه القضية، وهو تشكيك لو أمكن تعميمه، سيعنى بالضرورة أن شرعية مرسى الانتخابية التى حصل عليها عبر انتخابات أشرف عليها القضاء.. هى الأخرى محل شك.
الأمر الثالث فى وعد إعادة محاكمة مبارك الذى أطلقه مرسى، يعنى إعلان السلطة التنفيذية وعلى رأسها محمد مرسى، الالتزام الكامل بتوفير الأجواء المناسبة لمحاكمة طبيعية وعادلة، وإجبار جميع الأجهزة الأمنية والمخابراتية بتوفير جميع الأدلة الخاصة بالقضية محل النظر لجهات التحقيق القضائية، حتى لا تنتهى القضية، مثلما انتهت من قبل فى صورة ضبابية غير مقنعة، تحت شعار عدم وجود أدلة كافية.
ثلاث كوارث فى قرار واحد.. تلك هى عظمة الدكتور محمد مرسى، لا يخطب ولا يقرر ولا يصرح إلا بأشياء محملة بكوارث سياسية أو اجتماعية، تحمله هو شخصيا مالا طاقة له به، مثلما هو حاله الآن بعد أن قبلت المحكمة طعون مبارك والعادلى على الأحكام التى صدرت بحقهما فى 2 يونيو 2012 بالسجن المؤبد بتهمة قتل المتظاهرين.
محمد مرسى الآن فى مأزق حقيقى، ليس فقط لأن القضاء المصرى حقق له وعدا أطلقه على سبيل «الوعود الانتخابية»، ولكن لأنه أصبح ملزما أمام الجميع بفضل وعوده المسجلة بالصوت والصورة فى اللقاءات التليفزيونية، وخطبه المرتجلة بأن يقدم للناس عقابا أكبر مما حصل عليه مبارك والعادلى فى المرة السابقة، والأهم من كل ذلك أن محمد مرسى سيصبح المتهم الأول بإهدار القصاص لشهداء ثورة 25 يناير، إذا لم ينجح هو والسلطة التنفيذية التى يجلس على رأسها، بتوفير جميع الأدلة التى تضمن إدانة قوية لمبارك والعادلى، ويبدو مأزق مرسى أكبر من إمكانياته إذا وضعت فى الاعتبار أمرين لا ثالث لهما فى هذه المرة.
الجزء الأول من محاكمة مبارك والعادلى وباقى المتهمين بقتل الثوار الذين حصل أغلبهم على البراءة، تم إسدال الستار عليه، تحت بند عدم كفاية الأدلة وتقصير الجهات الأمنية والمخابراتية فى تقديم الدعم لجهات التحقيق.
بمقتضى الوضع الحالى ووجود مرسى على رأس الدولة، وإفتراض تحكمه فى جميع المؤسسات، وإعلانه هو السيطرة عليها بعد الإطاحة بالمشير وعنان والمجلس العسكرى، سيصبح مرسى ملزما بإجبار المخابرات والأمن الوطنى -أمن الدولة سابقا- والمخابرات الحربية بتقديم جميع الأدلة التى تدين مبارك وتسهل الحصول على محاكمة سريعة، وهو الأمر الذى يبدو صعب التحقيق فى ظل وضوح عدم سيطرة مرسى على مفاصل الدولة ومؤسساتها، واستمراره فى الشكوى هو وجماعته من الدولة العميقة وتحركاتها، فالأجواء الحالية تقول بأن رئيسا غير قادر على إجبار أجهزة الأمن على منع السرقة بالإكراه فى الشوارع وتوفير الأمان للمواطن، سيصعب عليه إجبارها على توفير الأدلة التى قد تساهم فى إدانة رجال ولواءات وضباط شرطة يخدمون فى نفس الجهاز.
وعلى عكس ماتوهم المراهق السياسى عصام العريان، قليل الحيلة والخبرة، من أن قرار محكمة النقض بإعادة محاكمة مبارك قدر إلهى، بأن تعاد محاكمة المخلوع فى عهد مرسى من أجل القصاص العادل، فإن ملخص الأمر السابق كله، يؤكد أن إعادة المحاكمة قدر إلهى لاختبار مدى قوة مرسى وقدرته فى حكم الدولة والسيطرة على أجهزتها الأمنية والمخابراتية المتهمة بطمس أدلة إدانة مبارك والعادلى، وعدم التعاون مع جهات التحقيق، وهى الاتهامات التى أطلقتها جهات متعددة كان على رأسها جماعة الإخوان المسلمين، والدكتور محمد مرسى نفسه الذى أتبع هو وجماعته هذا الاتهام بكلام كثير حول فساد هذه الأجهزة، ورغبتها فى إجهاض الثورة.. فإما أن ينجح مرسى كرئيس للسلطة التنفيذية فى إجبار هذه الأجهزة على توفير جميع الأدلة التى تضمن حكم يرضى شهوة الشارع والثورة فى الانتقام من مبارك ورجاله، أم سينضم هو وجماعته إلى قائمة المتهمين بإهدار دماء الشهداء والفاسدين الذين طمسوا الأدلة لإنقاذ مبارك؟
وحتى تكون الأمور أوضح بالنسبة لك، وتدرك أن مرسى سيكون النجم الأول فى إعادة محاكمة مبارك، لابد أن نعود معا إلى الوراء قليلا حتى يتضح لك الربط الثلاثى بين الرئيس محمد مرسى، وأجهزة الأمن الوطنى، والمخابرات العامة والمخابرات الحربية.. ولعبة توفير الأدلة.
فى بداية محاكمة مبارك ورموز حكمه والضباط المتهمين بقتل المتظاهرين، رفعت جهات التحقيق النيابية شعارا يحمل تحذيرا واضحا، يخص عدم توافر أدلة جدية، بل وأعلنت النيابة وبوضوح شديد، أن الجهات الأمنية لم تقدم لها المساعدة الكافية أثناء التحقيق، ثم جاء دور المستشار أحمد رفعت الذى أعلن من فوق منصة المحكمة يوم 2 يونيو، أن المحكمة بذلت ما فى وسعها فى نظر هذه القضية فى إطار ماتم توفره لها من أدلة ومعلومات دون أن ينسى التأكيد على أن الكثير من الأدلة الخاصة بالقضية، تعرضت لعملية طمس واضحة، نفس الشكوى التى أطلقها المستشار رفعت أشار إليها عدد من المنظمات الحقوقية مثل منظمة العدل والتنمية لحقوق الإنسان التى أصدرت بيانا عقب الحكم بالمؤبد على مبارك، قالت فيه إن هناك أجهزة متورطة فى إخفاء أدلة إدانة مبارك ونجليه ورموز نظامه الفاسدين وأشارت المنظمة فى بيانها إلى أمن الدولة ووزارة الداخلية، وأجهزة المخابرات، وهو الأمر الذى أثاره النائب السابق سعد عبود تحت قبة البرلمان «المنحل» فى شهر يونيو حينما قال فى كلمته أمام النواب تعليقا على محاكمة مبارك: «النيابة العامة عندما أعلنت أن هناك جهات سيادية تعمدت إخفاء الأدلة عن النيابة، كان يجب عليها إعلان من هى الجهة السيادية»، ثم أضاف عبود فى كلمته أن الأجهزة الأمنية المنوط بها تقديم أدلة فى تلك الفترة الحرجة، التى أعقبت انهيار الداخلية هى جهاز أمن الدولة، وجهاز المخابرات العامة، والمخابرات الحربية، وطالب بالكشف عن غموض تقصير تلك الجهات فى مساعدة القضاء على تحقيق العدالة الكاملة.
أزمة الأدلة وطمسها ظهرت بشكل أوضح فى حيثيات محكمة جنح مستأنف الظاهر، التى أيدت حبس اللواء حسين موسى، مدير قطاع الاتصالات بالأمن المركزى الأسبق، والتى يظهر فيها اتهامه بإتلاف أسطوانات إدانة الرئيس السابق حسنى مبارك، ووزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى فى قضية قتل المتظاهرين أثناء ثورة 25 يناير.
كل هذه التأكيدات القضائية والحقوقية على وجود تقصير واضح من أجهزة المخابرات، والأمن القومى، تلقى بالمسؤولية فى إخضاع هذه الأجهزة وإجبارها على فتخ خزائن أسرارها خلال أحداث ثورة 25 يناير أمام جهات التحقيق على عاتق محمد مرسى الذى أعاد هيكلة بعض هذه الأجهزة، وقام بتعيين رؤساء ومديرين جدد لها بشكل يجعل من صدور أى تصريحات تتعلق بأن هذه الأجهزة تحارب الرئيس أمرا سخيفا وغير مقبول، لأن مرسى هو من عين رئيس جهاز الأمن الوطنى، وهو من عين رئيس جهاز المخابرات، وبالتالى فإن أى اتهام بالتقصير فى مساعدة جهات التحقيق سيتحمله مرسى وحيدا.
أعود إلى تصريح الدكتور العريان، وحالة الفرح التى أعلنها بخصوص إعادة محاكمة مبارك فى عهد مرسى، كأنه يعلن ضمانه حصول مبارك على إدانة أشد فى عهد مرسى، لأذكركم بكارثة أكبر وأشد، تتعلق بتقرير لجنة تقصى الحقائق التى شكلها مرسى شخصيا والذى خلت سطوره من أى إدانة واضحة لمبارك ورجاله، وافتقدت إلى الإشارة نحو أى دلائل جديدة تساهم فى إدانة مبارك وحبيب العادلى بأكثر مما تمت إدانتهم به من قبل.
ملخص الحكاية إذن فى يد الدكتور محمد مرسى، وملخصها الأكثر تبسيطا، يمكننا أن نفهمه طبقا للأغنية الشعبية الحكيمة التى يمكن تطويعها لتقول: «الشعب عاوز القصاص للقتلة.. والإدانة عند المحكمة.. والمحكمة عاوزة أدلة.. والأدلة عند الأمن والمخابرات.. والأمن والمخابرات بيقولوا معندناش.. ومرسى هو الرئيس.. والرئيس عنده القرار.. والقرار لو مطلعش.. يبقى الرئيس هو المسؤول».. خلصت الحكاية.