الصعيدى صاحب البشرة الداكنة والقلب الأبيض.. باطنه كظاهره بل أحلى.. سره كعلانيته بل أصفى.. لا يعرف «اللوع».. لا يغدر بصاحبه.. بل يضحى من أجله. الصعيدى ظلمته كل الحكومات بلا استثناء.. رغم أنه أول من يدفع ضريبة الوطن حينما يستصرخه.. لا يهمل مصر كما تهمله.. ولا يعاملها بنفس معاملتها.. فهى أمه فى النهاية، كأنه كتب على الصعايدة أن يعيشوا دوماً فى البلاء والتعاسة والشقاء والبطالة والمرض والفقر.. فقطارات الصعيد تحترق بهم بين الحين والآخر.. عند العياط يبكون.. وعند البدرشين تفوح رائحة دمائهم ومعها يسح الدمع سخينا مدراراً من قلوب الأمهات والزوجات قبل العيون.. فالقطارات لا تعرف التصادم عادة إلا بهم.. وكأنه كتب على الصعيد شعار الموت أينما توجه.
يأتون من العراق فى عهد صدام فى نعوش إلى مطار القاهرة.. لا تسأل عنهم مصر كيف قتلوا؟.. ولماذا قتلوا؟.. تأتى مئات النعوش دون لوم أو عتاب لصدام حسين.. فصداقة مصر له أهم من كل الصعايدة. تفترسهم حيتان القرش فى البحر الأحمر بعد أن أغرقتهم عبارة السلام دون أن تطرف عين مبارك وعزمى وممدوح إسماعيل.. يعود الأهل إلى البيوت دون جثامينهم التى اتخذت من جوف الحيتان قبرا.. وكأن الوطن ضاق بهم أحياءً وأمواتاً، لا يجدون فى بلادهم مصنعاً يعملون به.. ولا استثمارات تنقذ أبناءهم من البطالة المدمرة.. حتى السياحة التى أنعشت حياتهم زمناً دمرت تماماً.. حتى باع أهل الأقصر حلى زوجاتهم لتسترهم الجدران بعد أن كانوا أغنياء، يعمل الصعيدى فى الخرسانة والمعمار فى درجة حرارة 55 درجة فى الكويت.. كل من يذهب إلى هناك يرسل لأقاربه وكأنهم يقولون لهم: «لا عيش لكم فى مصر التى زهدت فيكم.. رغم أنكم أول من يضحى من أجلها»، يستقدم بعضهم بعضا.. لا يهمهم حر الشمس الذى يصهر الحديد.. فأياديهم كالفولاذ تتحمل شمس الكويت والسعودية والخليج.. وما أدراك ما الشمس هناك فى وقت الظهيرة.. يعملون فى الصحارى الشاسعة لبناء المدن الجديدة.. دائماً يبنون ليسكن غيرهم.. ويزرعون ليأكل غيرهم.. ويحملون ليستريح غيرهم، يقولون: «لا يصمد لهذا العمل سوى الصعيدى.. يأكل قليلا ويعمل كثيرا.. لا يغادر المهندسون هناك مواقع العمل المكيفة وإلا أغمى عليهم.. أما العامل الصعيدى فيواجه الحر والمر والقيظ والجوع».
ليس أمامه خيار آخر.. الصعيدى لا خيار له إلا الشقاء.. يتغرب بعضهم 14 عاماً كاملة فى الكويت والسعودية والخليج وليبيا.. لأنه لا يستطيع نزول مصر كل عام وإلا أضاع تحويشة العام كله.. يثابر ويثابر.. يهضمه الخليجى أو الليبى أو العراقى حقه.. قد يطمع فى الريالات أو الدنانير القليلة التى يعمل بها ويعمر بها بلادهم.. فيصبر الصعيدى وهو القوى الأبى على قهر الرجال.. لأن وطنه قهره مرارا وخذله تكراراً.. فليس أمامه اليوم سوى الصبر والاستمرار، يعلم أن وطنه قد ظلمه وقلاه وجفاه.. فلا يستبعد ذلك من الآخرين.. لقد تعود على أن يظلم ويبخس.. إنه يصبر نفسه ليعود إلى وطنه يوما ليبنى بيتاً خاصاً به ويشترى أرضاً له ولأولاده بعد أن تمزقت وتبعثرت أراضى أجداده بفعل الميراث.. لم يبق للأحفاد من فدادين الأجداد سوى بضعة أسهم لا تسمن ولا تغنى من جوع.
لازال الفكر العشائرى والقبلى هو السائد فى الصعيد.. لقد أفاد فى حفظ الأمن أثناء الانفلات الأمنى بعد الثورة.. ولكن مأساته الكبرى هى استدعاء العشيرة كلها بسلاحها وعتادها مع أى مشكلة تثور بين فرد منها وآخرين.. مهما كان حمقه ونزقه.
الصعيدى لا يجد فى قريته أى سبب من أسباب العيش.. كل ما فى قرى الصعيد يصنع الموت لا الحياة.. بنادق وأسلحة تباع علنا.. ثأرات متأججة متوارثة يغذيها الفراغ والفقر والجهل ويشجعها السفهاء من الجانبين وما أكثرهم فى هذا الزمان.. ووفرة السلاح الذى يشتاق للقتل مع الفراغ الأمنى وضياع هيبة الدولة.
خصومات الثأر أردت قرابة ألفى قتيل فى عامين بعد الثورة مع آلاف الجرحى والمصابين.. وعشرات السجناء والمحبوسين. لا أتصل بقائد من قادة الدعوة فى صعيد مصر إلا وأجده مشغولا عادة بالصلح فى خصومة ثأرية بين عائلتين. لا عمل.. لا اقتصاد.. لا وظائف.. لا تعليم جيد.. لا رعاية صحية.. فقر وعوز وحاجة.. حتى إنك تجد أسرة قروية تحتاج إلى بطانية واحدة ليلتحف بها الأبناء.. كل المصانع تهجر الصعيد كأنها تكرهه.. حتى مصانع الصعيد ومؤسساته يستقدم لها آخرون من الوجه البحرى من أولى الحظوة والكوسة.
ليس أمام الشاب الصعيدى سوى الوظيفة الميرى.. وهيهات هيهات أن توجد منذ سنوات طويلة.. فإذا خلت وظيفة هامة فى شركة من شركات البترول والأسمدة أو الألومنيوم فى الصعيد فاز بها أرباب الكوسة والمحسوبية من أهل القاهرة الذين يعرفون جيداً من «أين تؤكل الكتف».. ومن «أين يؤتى فرسان الحكم فى كل عصر».
يذهب الصعيدى إلى الإسكندرية أو القاهرة فلا يجد عملاً إلا فى المعمار أو فى وكالة الخضار والفاكهة.. فيعيش كل سبعة فى غرفة واحدة.. ينامون على الأرض.. لا يذهبون لزوجاتهم إلا كل عدة أشهر.. الزوجة الصعيدية «رضيت بالهم ولكن الهم لم يرض بها».. كما يقولون.. تعودت على الصبر بكل أنواعه، تهضم المرأة الصعيدية فى ميراثها فتصبر لحكم أشقائها الأقوياء، الصعيد لم يكن يعرف الطلاق إلا نادرا.. ولكن الطلاق انتشر الآن فى الصعيد انتشار النار فى الهشيم.. الزوجة التى تطلق هناك لا تتزوج عادة.. وكأنه كتب عليها الأسى والعذاب طيلة عمرها، يموت الزوج الصعيدى فتصبر زوجته على ذلك وتعتكف حياتها كلها على أولادها.. فمنهم من يشكر صنيعها وأكثرهم يكفر ويجحد.. تنزوى بأحزانها وآلامها.. يبكى قلبها ولا تدمع عينها.