الكاتب والمفكر الكبير نبيل عبدالفتاح الذى أمضى حتى الآن حياته باحثًا فى الشأن الدينى عامة، وفى شأن جماعات الإسلام السياسى خاصة، وأصدر فى ذلك كتبا ممتازة وهامة مثل «المصحف والسيف» و«سياسة الأديان» و«النص والرصاص» تحمله الثورة التى لم يفارقها منذ اندلعت فى يناير 2011 سواء بتواجده أو بتعليقاته فى القنوات التليفزيونية المختلفة، أو بمقالاته وتحليلاته لما يجرى على الأرض التى نشرها وينشرها فى جريدة الأهرام، يفاجئنا هذه المرة بكتاب كبير وهام للغاية هو «النخبة والثورة» وعنوانه الفرعى «الدولة والإسلام السياسى والقومية والليبرالية سياسات التحول فى مصر». نشرته دار العين. وهو سفر ضخم يقع فى أربعمائة وخمسين صفحة من الحجم الكبير، وهكذا نعرف من البداية أننا سنكون فى كل ما طرحته الثورة على الأرض من أفعال أو أفكار أو صراعات ورؤى، هذا جهد كبير جدا ربما ساعد عليه أن بعض فصول الكتاب نشرت فى شكل مقالات أو أبحاث سابقة عبر العامين الماضيين، الكتاب لا يمكن احتواؤه فى مقال واحد فأقسامه اثنان كبيران. الأول بعنوان متن الحرية، والثانى «هوامش حول الحالة الانتقالية وتحولاتها وتعثراتها»، والقسم الأول ستة أبواب وأبوابه وفصوله تتقصى بعناوين دالة وأخاذة ما سماه بسياسة الكرامة، وفيها البحث التاريخى والاجتماعى للمصريين عن الأمل ثم سياسة عدم اليقين عن تاريخ مصر مع الدساتير والصراع الذى وصلنا إليه بين دستور الثورة العادل المطلوب والأمل وبين دستور النفط الذى تكرسة جماعات الإسلام السيايسى، كذلك يبحث أوضاع وسياسة المؤسسة غير الحاكمة، الأزهر والكنيسة وجماعة الإخوان المسلمين تاريخيا وعبر سنوات ما قبل الثورة وأثنائها وبعدها، وبعد أن أصبحت جماعة الإخوان حاكمة للبلاد، ثم يأخذنا مع سياسة المواطنة عن حقوق المرأة والطفل وسياسة الهيمنة عن الثقافة والمثقف والصحف، ثم سياسة الدور عن موقع ثورات الربيع العربى وتاريخ أوطانها ووضعها وسط العالم ودورها السابق والمأمول، فى كل ذلك وبإيجاز بليغ يضع تاريخ هذه الموضوعات بين يديك وما انتهينا إليه منها حتى يدخل بك إلى القسم الثانى وأبوابه عن سياسة الخروج للنهار وسياسة النخبة وسياسة الكتابة ومفرداتها من الكتابة والسلطة وسياسة الصخب والكلام والضوضاء والغموض، وأخيرا سياسة الانتقال، لا تفوت الكاتب شاردة فى تحليله التاريخى لكل مفرداته البحثية، وفى الكتاب عناية فائقة وطبيعية للدور الذى لعبته ميديا الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى، وكيف لم تكن الثورة معزولة عما سبقها من أشكال النضال منذ السبعينيات وأزمة النظام السابق التى انتهت إلى إغلاق كل الأبواب، وكيف عادت العاصمة إلى دورها الطليعى القيادى والطابع الكرنفالى للثورات فى مصر وتونس ودور المرأة العظيم.
يلخص الباحث الكبير نبيل عبدالفتاح الحدث الثورى المصرى بأنه جاء تعبيرا عن توق شبه جمعى لدى أبناء الطبقة المتوسطة المدنية بالأساس، وامتد الحشد من الشباب ليشمل الكبار من المفكرين والكتاب والروائيين والفنانين من ذوى المكانة والذيوع، ووصل إلى الألتراس الكروى، ويضع الثورة فى مكانها الجغرافى والتاريخى حقا، وأيضا فى عالم ما بعد الحداثة والعولمة الذى كان سمتا رئيسيا لنسق الانتفاضات والثورة المفتوح من الزى إلى الأكل إلى الشعارات الإنسانية إلى احتلال الميادين إلى الأشكال الكرنفالية الأخرى من رسوم وغناء وخطابة وتصوير. تتوقف طويلا أمام كل موضوع يطرحه الكتاب بعمق وما يشمله الموضوع الرئيس من موضوعات فرعية هامة جدا مثل سياسة التمييز تحت عنوان المواطنة وخطورة هذه السياسة بأقانيمها القديمة، مثل التمييز الدينى والاجتماعى والذكورى أمام ما طرحته الثورة من شعارات التسامح والحرية والكرامة الإنسانية. كما يضع تحليله للمؤسسات وما جرى ويجرى فيها من تغير أو تعثر بين ما يحدث فى العالم وتأثرها به، ويتجلى هذا كله فى المرحلة الانتقالية التى من أهم مشاكلها السيولة والفوضى والغموض فى الأهداف السياسية وخطاب القوى الإسلامية الذى يساهم فى تعطيل كل شىء ويحفز على هذه السيولة والفوضى لكونها تجحد شرعية الدولة الحديثة، الأوضاع حولنا تبدو مضطربة، لكنك بهذا الكتاب تعرف لماذا وما هى الطرق الصحيحة لتجاوز هذا الاضطراب على الأقل لأنك صرت تعرف، وعن يقين، فليس فى تحليلات نبيل عبدالفتاح افتئات، بل هو يضع التاريخ والواقع فى أحداث حقيقية شاهدا على ما يصل إليه وهو قد طمح فى هذا الكتاب طموحا كبيرا أن يحيط بكل ما يمكن أن نغفل عنه كأنما يريد أن يضع أمام القراء حالتنا قبل أن يضيع الطريق الذى لن يضيع، كما يؤكد هو على ذلك، فى الحقيقة رغم لغة البحث التحليلية والاستقصائية فنبيل عبدالفتاح بلغته البسيطة فى هذا الكتاب ومادة موضوعاته الغنية والوفيرة يضع بين يديك لوحة الثورة بكل رتوشها، كتاب نبيل عبدالفتاح عمل علمى دقيق ورائع، وأيضا يعج بزخم الثورة وما طرحته مما كان محل نضال ومما كان مسكوتا عنه، ورغم ضخامة الكتاب لكن الباحث الكبير كان موجزا جدا فى كل موضوع رغم إغراء المادة التاريخية والسوسيولوجية لكل قضية، كتاب ضخم لكنه يصل إلى غاياته من أقصر الطرق، ورغم عنوانه الرئيسى الذى قد يشى بتفصيل الحديث عن النخبة فستكتشف أن النخبة المعنية هنا ليست ما تردده البرامج التليفزيونية أو الحوارات الصحفية لكنها مفهوم أشمل يعم كل من له دور مميز من أفراد ومؤسسات وحكام وجماعات وأحزاب فى حريق الثورة الذى لم ينطفئ، وأن الحديث عن النخبة من خلال الحديث عن القضايا والموضوعات الحديث فى الحقيقة عن الثورة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة