فى أيام الثورة الأولى، وفى أوج قوة النظام السابق وسطوة جهازه القمعى ومباحث أمن دولته، نزلنا إلى الشوارع والطرقات ثائرين على ظلمه هاتفين بسقوطه، ورغم أننا كنا نشاهد مخبريه وهم يلتقطون صورنا، ونعلم ما يعنيه ذلك إن فشلت الثورة، فلا أتذكر أن أحدنا ارتدى قناعًا أو لثامًا أو أخفى وجهه، اللهم إلا اتقاءً لغازات داخلية العادلى. ثم رحل مبارك ووزير داخليته، وكلف عسكره، ونزلنا ضدهم من جديد فى محمد محمود وغيرها من المشاهد التى تساقط فيها إخواننا إلى جوارنا، ومع ذلك لم يتلثم أحدنا، إلا للسبب نفسه واتقاءً لغاز ما إن ينقشع حتى نكشف عن وجوهنا مرة أخرى، ونهتف سلمية سلمية رغم محاكماتكم العسكرية.
لا أتذكر أن فصيلاً وطنياً لجأ للتقنع والتخفى، اللهم إلا فى واقعة استعراض الإخوان فى الأزهر، والتى كانت فى ظل نظام قمعى، ربما خشى الطلبة الإخوانيون أن يدمر مستقبلهم إن كشفوا وجوههم، وهى واقعة تُستحضر اليوم بعد مرور أعوام عليها، لتبرير ما يحدث الآن من تخريب وترويع من وراء قناع. لا أعتقد، ولا أظن أن كثيرا من الإخوان أنفسهم يعتقدون أن ما فعلوه يومها كان صوابًا، لكنه رغم التخطئة لم يصل بحال أو حتى يقترب مما تقترفه اليوم عصابات القناع الأسود. والقناع الأسود ليس عنواناً لرواية طفولية من روايات «ميكى ماوس» المصورة، التى كانت تلك العصابة الطريفة تمثل الطرف الشرير فيها، وإنما هى ترجمة حرفية لما أطلقته على نفسها تلك المجموعة الجديدة التى تُعرف بـ«البلاك ماسك»، ويحلو لهم التقاط الصور بجوار أسلحتهم البيضاء والسوداء، ويطيب لهم التسلى بصناعة قنابل المولوتوف وهم يرتدون أقنعتهم اللطيفة، التى تذكرنا بأفلام التسعينيات حين كان البطل «الحرامى» يقوم بالسطو على أحد المنازل مرتديًا قناعا شبيها كان عادة يصنع من «جورب مثقوب» يؤدى الغرض المطلوب من إخفاء ملامحه كى لا يتعرف عليه ضحاياه.
قد ندرك سبب لجوء اللصوص وقطاع الطرق و«اللى عاملين عاملة» للتقنع كى لا يتم القبض عليهم، وقد نتفهم أن يضطر المقاوم فى بلاد محتلة للتلثم كى لا يتعرف المحتل الغاصب على شخصيته، لكن معارضا سياسيا أو ثائرا مناضلا يخفى وجهه!! هذا ما لا نفهمه، ولا نستوعبه، إلا حينما نرفقه بما يعلنه ويباهى به الثوار الجدد من مسؤوليتهم عن الإحراق والتخريب، والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة، وما يتبع ذلك من ترويع للآمنين بشكل لا يقبله شرع ولا قانون، ولا تستسيغه فطرة سليمة. حينما نستحضر المشهد كاملاً ندرك أن من يفعل ذلك يحتاج للاختباء خلف قناع، فهو أجبن من أن يظهر وجهه ويتحمل مسؤولية أفعاله كالرجال، وهو يعلم فى قرارة نفسه أن القوة والشجاعة التى يدعيها، ويظن أنه يشعر بها وهو يمسك بسلاحه أو قنبلته ويخرب أو يدمر مستحضرا أحداث الفيلم الهوليودى الشهير، إنما هى قوة زائفة وبطولة ورقية لم تكن لتأتيه إلا من وراء حجاب. كل ذلك قد تفهمه وتستوعبه فى إطار الرؤية النفسية والعمرية لهذه المجموعات، لكن ما لا يمكنك أن تستوعبه بحسن ظن أبدا هو هذا التهليل القمىء، وذلك الاحتفاء الإعلامى المقزز بهذه الظاهرة، لدرجة تسمح باستضافتهم بأقنعتهم، رغم اعترافهم على صفحاتهم أنهم جماعات تخريبية منظمة!! إن ما يحدث لهو مهزلة بكل المقاييس، وأمر يستوجب المُساءلة، ليس فقط لمن قام به، بل أيضا لمن يقوم بتشجيعه وهو يدرك جيدًا بحكم وعيه المفترض أنه يفتح باب شر ربما لا يغلق، وأن التصالح مع فكرة الإحراق والتخريب المقنع، واعتماده كطريقة للتغيير، سيؤدى لا محالة إلى ظهور ما يقابلها فى كل تيار، وسيكون المنطق السائد حينئذ هو منطق البقاء للأقوى، وستستر الأقنعة كل ذلك، وعندها لن ينفع الندم. إن الثورات لا تحتاج لأقنعة، والثائر الذى يصدح بكلمة حق لا يحتاج أن يخفى وجهه، وإن من أعظم ما ميز ثورتنا أننا لم نهب أن نقول للظالم فى وجهه: يا ظالم، ووقفنا فى مواجهته دون خوف أو تخفٍ، ودعاؤنا سلاحنا، وصيحات التكبير زادنا، وسلميتنا درعنا، وينبغى أن تظل كذلك حتى آخر لحظة، ولو لم يُسقط رفقاء الميدان وزملاء النضال خاتم الثورية عن أقنعة هؤلاء اللاسلميين فأخشى أن تسقط عنهم هم أنفسهم قريبا أقنعة طالما تقنعوا بها؛ أقنعة ثورة.... كانت يوما ما سلمية.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
hoda
n
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmad abdelaziz
انت فين ياراجل