هناك مدخل إعلامى لتحليل ثورة الربيع العربى يفترض أن الإعلام، خاصة الجديد، لعب الدور الأكبر فى الثورات العربية، وأنه لولا الفيس بوك وتويتر وشاشات الفضائيات الخليجية والأجنبية الناطقة بالعربية ما اتسع نطاق ثورة تونس، وانتقلت عدوى الثورة إلى مصر واليمن وليبيا وسوريا.
يفترض هذا التحليل أن النظام الإعلامى العربى، والذى يقصد به مجموعة تفاعلات وسائل الإعلام الحكومية والخاصة فى تغطيتها للأحداث، هو الذى فجر، وقاد ثورات الربيع العربى، والنظام الإعلامى هو مفهوم دراسى افتراضى بمعنى أنه لا يشير إلى شىء أو وجود مادى، وإنما إلى وجود مستتر، ويعتبر أحد الأنظمة الفرعية داخل هذا النظام الإقليمى العربى، وإن كانت درجة تفاعله وارتباطه بالنظامين السياسى العربى والثقافى العربى تفوق ارتباطه ببقية النظم الفرعية داخل النظام الإقليمى العربى، أى أن دائرة فعله تتوسط ما هو سياسى وثقافى دون انفصال أو استقلال عن بقية الأنظمة الفرعية داخل النظام الإقليمى العربى.
والمفارقة أن النظام الإعلامى العربى تفوق على النظام السياسى الإقليمى العربى فى السنوات الأخيرة، بمعنى أن تطور تكنولوجيا الاتصال والإنترنت وانتشار الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعى قد تجاوزت قدرة الأنظمة العربية على احتواء آثار عولمة الإعلام، ومن ثم تعرض النظام الإعلامى العربى لتحولين مهمين، الأول: اتساع دائرة النقد الإعلامى للأنظمة الحاكمة والدعوة للإصلاح، ونجاح الشباب العربى فى الدعوة للثورة والحشد الافتراضى والانتقال به إلى أرض الواقع الفعلى، وهنا برز المواطن العربى الشبكى والمواطن الإعلامى كلاعب مؤثر فى النظام الإعلامى العربى، وهو فاعل يتسم بدرجة أكبر من الاستقلال والقدرة على الدمج بين الفعل الاتصالى الافتراضى والواقعى، والثانى: تنامى حضور وتأثير الإعلام الناطق بالعربية كلاعب مؤثر أيضا، وهو ما يدعم من التوجه نحو نهاية النظام الإعلامى العربى، فى سياق الاتجاه أيضا نحو أفول النظام الإقليمى العربى.
باختصار تطور الإعلام العربى وانتشار الإعلام الجديد وفر أدوات جديدة لنشر الوعى السياسى والدعوة للثورة والأهم الحشد والتعبئة لثورات الربيع العربى، وهذا ما حدث بالضبط فى الثورة الفرنسية التى جاءت بعد التطور الكبير فى الصحافة المكتوبة التى كانت وقتها ثورة اتصالية هائلة، ثم تكررت الظاهرة فى الخمسينيات من القرن الماضى، ولكن فى سياق آخر عندما انتشر الراديو الترانزستور بين الشعوب المستعمرة، مما مهد لثورات وانطلاق حركات التحرر الوطنى حيث عزز الراديو من الشعور الوطنى والإحساس بالمصير المشترك وتشكيل رأى عام رافض للاستعمار، وفى مطلع القرن الحالى جاء انتشار الإنترنت واندماج الاتصال والإعلام والترفيه ليطلق موجة ثورية جديدة تعتمد على الاتصال والتشبيك عبر وسائل التواصل الاجتماعى والهاتف المحمول.
إذن التحركات الجماهيرية بحسب المدخل الإعلامى فى تفسير الثورات يسبقها ويواكبها تقدم فى الاتصال والإعلام، وهو كلام منطقى ومقنع، لكنه لا يكفى لتقديم فهم كامل لأسباب انفجار ثورات الربيع، كما لا يفيد أيضا فى تفسير تعثر الثورات العربية، فهناك أسباب كثيرة سياسية واجتماعية اقتصادية، كما أن هناك نضالات طويلة وتراثا من الخبرات الشعبية والسياسية فى مقاومة أنظمة الحكم العربية الفاسدة، ما يعنى فى التحليل الأخير أن تطور تكنولوجيا الإعلام ساعدت بالفعل فى الحراك الثورى لكنها لم تنفرد بصنعه وليست هى المحرك الأول لها، فالإعلام لا يصنع الأحداث والثورات، وبنفس الدرجة فإن الإعلام لم يصنع فشل مرسى وجماعته فى إدارة الدولة، وإنما فضح هذا الفشل وقدمه للناس.