الجدل الدائر اليوم فى لجنة الدستور عن نسبة الخمسين فى المائة عمالاً وفلاحين، هو نفسه الجدل المستمر منذ عشر سنوات ولم يحسم. ففى السنوات الأخيرة لمبارك كانت هناك أصوات كثيرة ترى ضرورة إلغاء نسبة العمال والفلاحين فى المجالس المنتخبة، باعتبارها فقدت معناها وقيمتها، فضلاً على أنها غير مفيدة للفلاح والعامل، وكان الحزب الوطنى يحتفظ بالنسبة ليس حبًا فى العمال والفلاحين، ولكن حرصًا على الأغلبية الميكانيكية فى المجالس. وفى مناقشات تأسيسية الغريانى تجدد النقاش، وتم الاتفاق على إلغائها بعد فترة، وكان الإبقاء على النسبة يهدف لمداعبة الفلاحين والعمال فى مجلس الشعب والمجالس المنتخبة.
وطوال العقود الأخيرة كانت نسبة الفلاحين والعمال موجودة فى الدستور ومطبقة فى الانتخابات، لكن لم يحدث أن أفادت الفلاحين أو دافعت عنهم، وكان الفلاحون والعمال هم أكثر الفئات التى تعرضت للضرر من السياسات الاقتصادية، سواء الخصخصة، أو العولمة. وخلال الانتقال من الاقتصاد الموجه للاقتصاد الحر، بقى الفلاح والعامل يعملان ويقبضان فى اقتصاد موجه، لكنهما يعيشان فى اقتصاد حر، تدهورت أحوالهما وهبطت مع أغلبية المصريين. ولم يكن النظام الاقتصادى رأسماليًا تمامًا ولا اشتراكيًا، إنما ما كنت أسميه «الرأسرجلية».. لم تدافع عنه نسبة برلمانية، بل إن مقاعد العمال والفلاحين احتلها وزراء ولواءات وأساتذة، من خلال ثغرات تم فتحها جعلت الشكل متوافرًا والموضوع غائبًا.
قبل الانتقال إلى اقتصاد السوق كان هناك بنك التسليف، والجمعيات الزراعية والإرشاد التى تقدم للفلاح المساعدات والقروض بفوائد ميسرة حتى مواسم الحصاد، وكانت الدولة تشترى المحصول بسعر تعويضى، لكن مع الانتقال إلى اقتصاد السوق تراجعت الدولة وتحول بنك التسليف إلى بنك التنمية الذى يعمل بنظام عادى وفوائد مرتفعة. والمثير أن الدول الأوروبية والرأسمالية أبقت على دعم الفلاح فى مواجهة تقلبات الأسواق فى العولمة، بينما تراجعت مصر عن تدعيم الفلاح الذى واجه ارتفاعات أسعار أدوات الإنتاج، دون أن يمتلك القدرة على التحكم فى أسعار المنتج، لأن التجار كانوا أصحاب القرار، ثم إن الفلاح المصرى ظل خارج نطاق التطورات العالمية، لتصبح مصر البلد الزراعى الذى كان له «شنة ورنة» فى الزراعة، أكثر من يعاقب الفلاح على عمله فى الزراعة، وظل الفلاح محرومًا من أى حقوق تأمين صحى أو ضمان اجتماعى ومعاش، وهو الذى واجه محتكرى الأسمدة والتقاوى، وتعرض للمبيدات المسرطنة من كل الأنواع والجهات.
والنتيجة أن كثيرًا من الفلاحين هجروا الأرض، أو توقفوا عن الزراعة، وربما تركوا أرضهم للبوار، بينما ظللنا نشترى قمحًا فاسدًا من روسيا وأوكرانيا، ونرفض تدعيم الفلاح المصرى، الأمر نفسه فى الأرز والبطاطس وغيرهما.. يقف الفلاح وحيدًا فى مواجهة الحكومة والسماسرة والبنك، كل هذا فى وجود نسبة الخمسين فى المائة عمالاً وفلاحين فى الدساتير والانتخابات.
ومن دون الارتفاع بالفلاحين والعمال ماديًا واجتماعيًا، لا يمكن الحديث عن نهوض أو تطور، وهى أمور لا تأتى فقط بمواد ميتة فى الدستور، لكن بضمانات حقيقية فى العلاج والتعليم، فضلاً على دعم حقيقى وليس مجرد دعم انتخابى، ولابد من إنهاء المرحلة «الرأسرجلية» فى السياسة والاقتصاد.