تبنى الدول على القواعد، المبادئ، المواثيق، الأحلام، الغايات الكبرى، والطموحات الخلاقة، على الأسس المدنية السليمة التى لا تفرق بين المواطنين، على الروح الوطنية التى تدفع الجميع إلى الأمام، على الثقافة العامة التى تجعل الشعب كالجبل الراسخ لا تؤثر فيه أمواج، ولا تعبث به رياح، على مفردات الهوية الجامعة التى تتسرب إلى الشخصية الوطنية فتميزها عن غيرها وتجعل الوطن كالكعبة، حوله نطوف، وبأستاره نتعلق، وعلى حوائطه نكتب ونعيش، تبنى الدول على الخطط الاستراتيجية التى ترى النور فى آخر النفق، فتنير النفق وتجعله دربًا ممهدًا لصالة الوصول إلى الحق والخير والحرية.
هكذا أعرف قواعد بناء الوطن، وهكذا فعلت الدول التى منّ الله عليها بقيادات مخلصة عاقلة متبصرة واعية، لكن للأسف من ينظر إلى ما يدور الآن لا يجد لكل الأولويات السابقة محلا، ولو أردت فعلا أن توصف ما يحدث الآن فيما يفترض أنه بناء مصر الحديثة فلك أن تصف هذا بأننا نؤسس «دولة رد الفعل» ذلك لأن أغلب قرارات الحكومة ومشاريعها تأتى فى إطار الرد على «الإخوان» ومليشياتهم، فقانون التظاهر الذى يثير الآن ردود فعل جدلية كثيرة وضع ردا على مظاهرات الإخوان، والجدل المثار فى لجنة التعديلات الدستورية حول بعض المواد هو فى جوهره رد على مواد الإخوان، كما أن أغلب قرارات الحكومة ومشاريع قراراتها أيضا هى إما رد على الإخوان أو وأد لأفعالهم المتوقعة، وحينما طالب الفريق أول عبد الفتاح السيسى تفويضا من الشعب لمواجهة الإرهاب «المحتمل» كان بدافع الاستعداد لإرهاب الإخوان، وهكذا فإن الحكومة- دون أن تدرى- مضت لترسخ دولة هى فى الحقيقة «دولة رد فعل» على الإخوان، وهو الأمر الذى يعطى الإخوان فرصة ذهبية لتكون شريكا أساسيا فى مستقبلنا ولو بالسلب، لكنها «شراكة» على أية حال.
استيائى من هذه الدولة «دولة رد الفعل» لا يعنى أبدا أننى ألوم الحكومة على قراراتها الهادفة إلى محاربة الإخوان وقطع دابر إرهابهم، لكننى أريد من هذه الحكومة أن تسير وفق خطة شاملة، يكون هدفها الأساسى هو بناء دولة حديثة على أسس وخطط وأحلام واستراتيجيات، ولو فعلت الحكومة هذا دون أن يشغل «الإخوان» الحيز الأكبر من تفكيرها فإنها بذلك سوف تقضى على الإخوان تلقائيا، لأننا بوضع الإخوان نصب أعيننا دائما نمنحهم بيئة مثالية للانتشار، فهم يعيشون على ثغرات الدولة، ويرمحون فى تقصيرها وتخاذلها، ويكسبون من انشغالها بالقضايا الفرعية، فى حين أننا لو حذفنا «أثر الإخوان» من حياتنا وفكرنا بروية وتمهل ودأب فى الخطط المثالية لمصر والدستور المثالى لمصر والمجتمع المثالى لمصر، فإننا بذلك سنؤسس دولة تلفظ أى كائنات طفيلية لا تعيش إلى على الوهن، ولا تسمن إلا على فضلات المجتمع الفاسد.
ولكى أكون منصفا، فإننى هنا لابد أن أشير إلى أن ظاهرة «دولة رد الفعل» هذه لم تنفرد دولة مصر فى مرحلة ما بعد ثورة 30 يونيو، ولك أن تعرف أنه من الأسباب الرئيسية لكسر دولة الإخوان أنها كانت «دولة رد فعل» بامتياز، فمعظم قراراتها وقوانينها ومشاريعها وضعت فى الأساس كـ «رد فعل» وفى الحقيقة فإن هذه الظاهرة غالبًا ما تتكرر فى الدول الخارجة من وطأة الاستعمار، فكانت مشاريعها وخططها وطموحاتها وقراراتها مرتبطة ارتباطا كليا بالمستعمر حتى ولو بدلالة المخالفة، وهى الظاهرة التى اكتشفها المفكر العربى الكبير «إدوارد سعيد» فى كتابه الأهم «الاستشراق» وهو الأمر الذى أسهم فى تكريس التبعية للمستعمر فى الوقت الذى أرادت فيه الدول أن تنسلخ منه، من وأخشى ما أخشاه أن يتكرر ما حدث مع الإمام أبى حامد الغزالى الذى قال عنه الفقيه ابن العربى «شيخنا أبو حامد دخل فى بطن الفلاسفة، ثمَّ أراد الخروج منها، فما استطاع»، وأن نشغل أنفسنا بـ«الإخوان» وحينما نريد أن نتقيأها لا نقدر.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
صدقت - دولة رد الفعل ستبقى دائما تابع عاجز عن اى انجاز او فعل
بدون