لا أذكر على وجه التحديد متى سمعت هذا التصريح، لكنه كان فى أواخر فترة رئاسة الدكتور الراحل سمير سرحان لهيئة الكتاب المصرية التى تشرف على معرض القاهرة الدولى للكتاب، كان الراحل يرد على هجوم وسائل الإعلام التى رأت أن فى دخول عربات الكشرى ونصبات الشاى إلى معرض الكتاب يقلل من شأنه ويحبط من مكانته، فقال لهم الراحل إنه زار كل معارض كتاب العالم ورأى كيف تحتفى هذه المعارض بأكلاتها الشعبية ولذلك سمح لعربات الكشرى بالدخول إلى معرض الكتاب تدعيما لهوية مصر «الشعبية» وترويجاً لأشهر أكلات الشعب المصرى.
كان الراحل برغم ما يثار حوله من أذكى الشخصيات التى تولت إدارة هيئة الكتاب، وتجلى هذا الذكاء فى طريقة تعامله مع وسائل الإعلام المختلفة وفى إدارته للمعارك الثقافية التى تخدم توجهاته الفكرية والسياسية، ففى التصريح السابق العديد من المغالطات المنطقية لكنه استطاع أن يخرس ألسنة معارضيه بمنتهى البساطة، فلا أحد ينكر أهمية التمسك بهويتنا الشعبية حتى وإن اقتصر هذا التمسك على «الكشرى» ولا أحد ينكر أن دول العالم تتفنن فى تقديم مأكولاتها الخاصة إلى زائريها، ولا أحد ينكر أن الطعام هو جزء لا يتجزأ من بيئتنا وهويتنا وطريقة تفكيرنا، ولا أحد ينكر أن هناك إبداعا خاصا لكل شعب يتجلى فى طريقة تحضيره لهذا الطعام، لكن مغالطة سرحان التى خدعت وسائل الإعلام وقتها تكمن فى أن هيئة الكتاب لم تخطط لترويج «الكشرى» فى معرض الكتاب، وكل ما فى الأمر أن صاحب مطعم كشرى استأجر مكانا فى المعرض ووضع فيه عربته، ولو كان هذا الرجل خصص مكانه لبيع الورد أو الآيس كريم لما انتبهت الهيئة، ومن هنا كان تصريح سرحان تبريريا لأن وجود عربات الكشرى لم يكن وفق خطة وضعتها الهيئة وإنما أتى وفقا لمنطق عشوائى مازال يقودنا حتى الآن.
نعم، كل الشعوب تهتم بمأكولاتها الشعبية وأذكر أننى كنت منذ سنوات فى دولة الأردن مشاركاً فى مهرجان الرمثا الشعرى وكان معى العديد من شعراء العالم العربى وفى أحد المساءات بعد تناولنا وجبة «المنسف» الأردنية الشهيرة، تساءلنا عن أكلات الدول العربية الشهيرة، وكل واحد منا ذكر أشهر أكلات بلده، فكالعادة تشاجر اللبنانيون مع السوريين حول نسبة الأكلات الشامية لذلك البلد أو هذا، ومضى الخليجيون يعددون أكلاتهم الشعبية واضعين فيها العديد من الأكلات الهندية، وحينما سئلت قلت إن هناك العديد من الأكلات المصرية الشعبية غير المشهورة ومضيت أعددها وسط دهشة الإخوة العرب الذين لم يسمعوا من قبل عن هذه الأكلات متخيلين أن الأكلات المصرية هى الفول والطعمية والكشرى فحسب، غير مدركين أن لكل محافظة من محافظات مصر أكلاتها المميزة وأن المطبخ «الدمياطى» يختلف عن المطبخ «البورسعيدى» يختلف عن المطبخ «الواحاتى» يختلف عن المطبخ «الصعيدى» يختلف عن المطبخ «القاهرى» وكل هذه الأكلات التى تعد بالمئات تستحق من وزارة الثقافة أن تقوم بحصرها وإحصائها وأرشفتها وتقديمها فى محافلها الرسمية والاحتفائية، لكى تقدم وزارة الثقافة «ثقافة الشعب الحقيقية، بخطط واضحة ونية مبيتة، كما يجب على الدولة أن تتبنى هذا المشروع باعتباره أحد مفردات الهوية المصرية، عن طريق تسهيل تعليم طرق إعداد هذه الأطعمة وتقديم الدعم للمطاعم التى تقدم هذه الأكلات، وبهذا الشكل يصبح تبرير الدكتور الراحل سمير سرحان «حقيقة» لا تحتاج إلى تبرير.