لا علاقة بين الموضوعين إلا أن الوقت قصير والأحداث تجرى.. ورغم أن الجزء الأخير من المقال عن كتاب يمكن إرجاء الكلام فيه، إلا أن الكتاب جميل وأمتعنى وشغلنى عن غيره من الكتب.. ولأبدأ بالحديث عن أمر شغل ويشغل لجنة صياغة الدستور.
النيابة الإدارية ومجلس الدولة:
نشب فى الفترة الأخيرة خلاف فى لجنة صياغة الدستور حول النص المقترح من لجنة نظام الحكم فى اللجنة، وهو «القضاء التأديبى جهة قضائية مستقلة تتولى الفصل فى الدعاوى التأديبية، والنيابة الإدارية جزء لا يتجزأ منها، وتتولى التحقيق فى المخالفات المالية والإدارية وتحريك ومباشرة الدعاوى والطعون وفقا للقانون، ويحدد القانون اختصاصاتها الأخرى».
ولقد وجدت عند السيد المستشار محمد يوسف، نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية، المحترم، الكثير مما اقتنعت به، ويفسر لى اعتراض مجلس الدولة، وكيف هو فى غير محله، وهو قائم على أن ذلك سيؤدى إلى تقليص اختصاصات المجلس ليجعل المحاكم التأديبية مع النيابة الإدارية جهة قضائية مستحدثة، بعد أن كانت تتبع القسم القضائى.. وهى حجج مردود عليها بأن مجلس الدولة يتولى مئات الآلاف من القضايا، تتراكم نتيجة قلة عدد القضاة فى مقابل كثرة الاختصاصات للمجلس.. كما أن مئات القضاة معارون بالخارج، أو منتدبون فى الداخل فى وزارات وهيئات مختلفة، ولهذه الانتدابات الداخلية ما عليها، لأن الوزارة أو الهيئة التنفيذية يكون مرجعها فيما تتخذ من قرارات هؤلاء القضاة المحترمين المحصنين أمام القانون. وهكذا فى حالة القرارات الخاطئة يتمسك المسؤول التنفيذى بأن صاحب الرأى هو القاضى الذى يقتضى الأمر التحقيق معه أولا، وهو محصن، وهكذا يكون الانتداب الداخلى حصانة للسلطة التنفيذية التى تحرص عليه بأى ثمن، كما أن استمرار النيابة الإدارية على ما هى عليه- فاقدة قوتها القضائية- يقضى على الفكرة الثورية منذ إنشائها عام 1954، وهى مكافحة الفساد المالى والإدارى فى الجهاز الوظيفى للدولة، وحماية المال العام، وتقويم أداء الخدمة العامة، وإصلاح أداة الحكم، كما أن فى رفض استقلال القضاء التأديبى سرًا خفيًا، وهو أن كثيرًا من أعضاء النيابة الإدارية نساء، ولا أحد يعترف أن تكون النساء على منصة القضاء، وفى هذا تجاوز على حق المرأة.. إذن ينتهى عمل النيابة الإدارية بإحالة موضوعاتها إلى القضاء الذى لا يكفى آلاف القضايا، بينما الأفضل هو تفعيل دور النيابة الإدارية فى مكافحة الفساد المالى والإدارى بأن تكون منظومة قضائية كاملة.
أعتقد قياسًا على ما مر علينا من تاريخ الفساد أن دور النيابة الإدارية يشوبه النقصان، لأنها فى النهاية ترسل ما تصل إليه من تحقيقات إلى قضاء فيه المنتدب فى الهيئة التنفيذية التى قد تكون محل الخلاف، وفيه عدد لا يكفى من القضاة لآلاف القضايا، وفى المسألة كلها ابتعاد عما أنشئت النيابة الإدارية من أجله، ولا غرابة فى تآكل اختصاصات قضاة التحقيق فى النيابة الإدارية الذين فى النهاية يصل ما يفعلونه إلى هيئة قضائية أخرى لا وقت لديها، وكثير منها معار أو منتدب!
فتنة الخلافة:
هذا كتاب رائع للكاتب والباحث فى شؤون التاريخ الإسلامى الأستاذ محمد أبورحمة.. عنوانه الرئيسى «فتنة الخلافة»، وعنوانه الفرعى الذى يحدد موضوعه «تاريخ الاغتيالات السياسية والصراع على السلطة منذ عثمان بن عفان حتى سقوط بغداد»، وموضوع فتنة الخلافة لأول وهلة قديم، كتب فيه الكثيرون منذ مطلع القرن العشرين، ولعل الجميع يذكرون كتاب طه حسين العبقرى «الفتنة الكبرى»، لكن كل الكتب كانت تختار فتنة عثمان وعلى رضى الله عنهما نموذجًا، أو بعض تجليات الفتنة فى بعض الدول الإسلامية والجماعات المتعاقبة على التاريخ.. هذا الكتاب يمضى مع تاريخ الحكم الإسلامى كله منذ موت الرسول عليه الصلاة والسلام حتى الظاهر بيبرس فى مصر.. ويمر بالفتنة الكبرى ثم الفتن على مدار الدول الإسلامية المختلفة منذ العصرين الأموى والعباسى، ثم حين تفرقت الولايات، فيحدثنا عن الفتن فى الدولة الفاطمية والإخشيدية والبوهية والغزنوية والسلجوقية.. وهكذا يمشى مع الفتن فى الدول السنية والشيعية، وفيها كلها ترى كيف كان الشعار دائمًا هو العدل، وأن يكون الخليفة واحدًا يمتد نسبه إلى البيت النبوى فى بعض الطوائف والجماعات الأولى، مثلما جرى فى الدولة العباسية، وأيضا الدولة الفاطمية.. المهم أننا على مر العصور نجد أن اتجاهًا أو جماعة أو مذهبًا أو أسرة أو فردًا يريد أن يحقق لنفسه وجودًا سياسيًا بالحكم لا يصل إلى ذلك إلا عبر استخدام الدين استخدامًا نفعيًا فى قتل خصومه، أو من يريد أن يحتل مكانهم.. وهكذا تقريبًا لا تجد حاكمًا إلا وقد تم قتله، ولا يتولى الحكم حاكم جديد إلا على جثة من سبقه، والأهم جثة من أعانه على الحكم.. ورغم طول التاريخ الذى يتقصى الكاتب فيه حقائقه، فإنك تجد قدرة علمية رائعة على الإيجاز والتحليل معتمدًا على قراءاته الكبيرة لا شك، وعشرات المراجع، سواء كانت مراجع تاريخية أم مراجع فكرية. والحقيقة فى هذا الكتاب أهم من الرأى، بل إن الرأى مبنى على حقائق واضحة، هى أن الاغتيالات كانت هى سبيل الفتنة على أنواعها، وخلال ذلك ترى كيف كان الحاكم الجديد لا يكتفى بهزيمة سابقة، بل كان بعدها يترك جنوده فى تخريب البلاد المحتلة، واستحلال نسائها وأموالها باعتبار أنهم غنائم حرب يسّرها الله لهم، بينما الشعوب العربية وغيرها من البلاد التى دخلها المسلمون لا ناقة لها ولا جمل فى صراعاتهم، ويدفعون هم دائمًا الثمن.. فى الحقيقة مشاهد القتل رهيبة فى العائلة الواحدة من الحكام، وهى ليست من خيال المؤلف بل هى الحقائق الغائبة عمن يتشدقون باستخدام الدين فى السياسة أو الحقائق المخفية.. مشاهد القتل والتعذيب لا يتحملها المقال، ولم تقف الفتن عند من يطمعون فى الحكم فقط، بل طالت كثيرًا من الأدباء والأئمة، مثل ابن المقفع، وابن حنبل، والجعد بن درهم، والسهروردى، والحلاج وغيرهم الذين دفعوا ثمن رأيهم.. تاريخ طويل من القتل والاغتيالات باسم الدين لم يريدوا به غير دنيا زائلة.. كتاب «فتنة الخلافة» للأستاذ محمد أبورحمة الصادر عن «بورصة الكتب للنشر» أوجز لنا عشرات من كتب التاريخ، ومئات من الأحداث الكبرى لنرى الوجه الحقيقى لمن يتخذون من الدين ستارًا لأطماعهم ولايزالون.. أجل هو الماضى الحقيقى لما نراه أمامنا كل يوم من المتشدقين باسم الدين، ولا أعرف إلى متى يصدق بعض الناس كلامهم؟
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
درويش المعتزل
أبقي قابلني لو حد رد عليك
عدد الردود 0
بواسطة:
السلطة القضائية
انت كاتب محترم
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد العدوى
رسالة إلى السادة مستشارى مجلس الدولة
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد العدوى
رسالة إلى السادة مستشارى مجلس الدولة
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد العدوى
رسالة إلى السادة مستشارى مجلس الدولة
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد العدوى
رسالة إلى السادة مستشارى مجلس الدولة