إن شجر الزيتون لا يثمر إلا بعد سنين طويلة فمال هذا الشيخ الهرم الذى قد بلغ من العمر أرذله يبذل من وقته وما بقى من صحته الواهنة فى غرسه. هكذا سأل كسرى نفسه وقد خرج فى رحلة من رحلات صيده فلقى فى طريقه ذلك الشيخ الطاعن فى السن منهمكا فى غرس شجرته. لم يكتف كسرى -عظيم الفرس- بسؤال نفسه ولكنه توجه إلى ذلك الشيخ بالسؤال: يا هذا أنت شيخ هرم والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة فلِمَ تغرسه؟! فكانت الإجابة من الشيخ الحكيم: أيها الملك قد زرع لنا من قبلنا فأكلنا؛ فنحن نزرع لمن بعدنا فيأكل. أعجب ملك الفرس بإجابة الرجل وصاح راضياً: «زه».. كلمة قصيرة هى لكنها ذات مدلول معلوم لمن حوله.
لقد كانت عادة ملوك الفرس إذا قال أحدهم هذه اللفظة فإن ذلك يعنى أنه قد قرر إعطاء ألف دينار لمن قيلت له، أمسك الشيخ الهرم بعطية الملك السخية متبسما ثم زاده من الحكمة فصوصا فقال: أيها الملك إن شجر الزيتون لا يثمر إلا فى نحو ثلاثين سنة وها هى هذه الزيتونة قد أثمرت فى وقت غراسها، سُرَّ كسرى لمزيد حصافة الرجل ثم قال: زه، فكانت ألف دينار أخرى فى يد الشيخ الذكى الذى لم يلبث إلى أن زاده قائلاً: أيها الملك إن شجر الزيتون لا يثمر إلا فى العام مرة وهذه قد أثمرت فى وقت واحد مرتين «يقصد العطيتين»، هنا قال كسرى مسرعا: زه، فأعطى الرجل ألف دينار ثم ساق الملك جواده مسرعا وقال: إن أطلنا الوقوف عنده نفد ما فى خزائننا.
قد يقول قائل إن ذلك الشيخ الهرم كان انتهازيا نفعيا استطاع من خلال حكمته وجزالة منطقه أن يحصل مالا وفيرا بـ«الفهلوة». ربما كان كذلك بالفعل وربما كان غير ذلك. لكن الفكرة الأهم فى ذلك الأثر أن هذا الرجل لم يكن يدرى حين غرس الزيتون أن ذلك سيكون سببا فى تلك الثروة للتى هبطت عليه. لم يكن يعلم أن كسرى عظيم الفرس سيمر فى تلك الساعة و«يزهزه» حياته بكلمته: «زه» إعجابا بمنطقه وعقليته وسرعة بديهته. لكن الرجل رغم عدم علمه غرس ورغم بعد المدى الزمنى وغلبة الظن أنه لن يحصد ولن يعيش ليأكل من تلك الزيتونة فإنه زرعها.
والحقيقة أن ما فعله الشيخ الهرم يخالف فى ظاهره مطلق الطبع الإنسانى الذى تغلب عليه الأنانية وتطفو عليه الأطماع الشخصية فلا يعمل إلا لمصلحته ولا يفكر إلا فى آماله التى إذا ما انقطعت انقطع معها عن العمل فى التو واللحظة. ولو افترضنا صدق الشيخ فى تلك القصة فقد تخطى بنيَّته حواجز الأنانية والتمحور حول الذات وانتقل إلى رحابة نفع الغير وإفادة مجتمع ربما لم يولد أفراده بعد، وذلك استمرارا لحركة تكافلية سبقه بها أولئك الذين غرسوا الزيتون من قبل، إنها تلك القيمة التى لخصها النبى صلى الله عليه وسلم فى حديثه المشهور «إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، حتى فى ذلك الظرف الرهيب الذى تيقن فيه أنه لن يأكل منها فإنه مُكلف بالغرس. مُكلف بالنفع المتعدى طالما كان ذلك بيده. ربما كان الأمر على المجاز فإن زلزلة الساعة شىء عظيم تذهل فيها المرضعة عما أرضعت ومن باب أولى يذهل حامل الفسيلة عن غرسها. لكن المعنى واضح والقيمة ظاهرة. معنى غرس الفسيلة بغض النظر عن إدراك ثمرتها وصنع الخير دون انتظار نتائجه العاجلة، وقيمة تجاوز الآمال الضيقة والأعمار المحدودة ومخالفة طبيعة التمحور حول الذات والتفكر أحيانا فى أن هناك شيئا يقال له العطاء، ولا يدرى المرء لعل الله يسوق له ثمرة ذلك العمل من حيث لا يحتسب كما سيقت لزارع الزيتون العجوز. المهم أن يقوم العمل ويقع النفع. المهم أن تُغرس الفسيلة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
rasha
:) :)
عدد الردود 0
بواسطة:
ashraf
بارك الله فيك
احسنت
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmad abdelaziz
وبعدين
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الله
إلى التعليق رقم3 إعادة إرسال برجاء النشر يا يوم يا سامع مشكورين
عدد الردود 0
بواسطة:
وبعدين انت يا رقم 3
لنبدأ الغرس
عدد الردود 0
بواسطة:
المنتصر بالله
لنبدأ الغرس يا رقم 3