هذه هى الحلقة الثانية من مذكراتى التى كتبتها منذ فترة عن ابنتى المرحومة «نوران».
لقد غيرت «نوران»، تلك الطفلة الصغيرة الضعيفة، من أنماط حياتنا إلى الأفضل والأحسن.. فقد جمعت أولادى وقلت لهم: لقد مضى وقت الدلع «أى الدلال» والراحة، وأن تخدمكم أمكم فى كل شىء كما تعودتم، فأختكم «نوران» تحتاج إلى رعاية شاملة طوال الليل والنهار، ولا نستطيع أن نغفل عنها لحظة، لا بد أن تعتمدوا على أنفسكم، لابد أن نقسّم العمل فى البيت بيننا..
لقد تحمل أخوكم هيثم الأيام الصعبة مع أمكم حينما كنت معتقلًا، وتعودتم أنتم على السعة والراحة وعدم المشاركة فى شىء، والآن تغير كل شىء.. فما كان إلا أن وافقوا على ذلك.
وفعلًا تغير كل شىء، فدخلت «رحمة» المطبخ، وأصبحت تعد الطعام لنا لأول مرة، وصارت تحمل «نوران» طوال الليل وحتى الصباح لتسلمها لزوجتى، ثم أتسلمها أنا حتى وقت ذهابى للعيادة، وبدأت «فرحة» الصغيرة تكنس وتمسح وتنظف وترتب البيت وهى فى السنة الثانية الابتدائية.
وبدأنا جميعًا نتعلم كيف نحضر الببرونة ونجهز الرضعة، وأصبح كل واحد منا يرتب مكانه أو يرفع الطعام أو يحضره.. أو.. أو.. مما لم نكن نصنعه من قبل.
وتدفق الحب الكبير لهذه الطفلة البريئة ذات الوجه الجميل، والشعر الأصفر، والابتسامة الساحرة، والحركات التى تخلب الأفئدة، رغم قمة الضعف البدنى لها.
وكانت كلما اشتد بها الضعف تنظر إلى َّ نظرات أشبه بنظرات الكبار، وكأنها تقول لى ولأمها: «أنا أعرف أنى تعبتكم.. ولكن ذلك لن يدوم طويلاًَ».
وأقول لأمها: «هذه البنت تنظر نظرات عميقة جدًا أكبر من سنها».
وكانت تغرورق عينها بالدموع كالكبار أحيانًا دون بكاء، فأقول لها: «ليست هذه دموع الأطفال.. بل دموع الكبار الذين يتألمون فى صمت».
ثم جاءت الدراسة فوقعنا فى أزمة كبرى، فكل هؤلاء الذين يحملونها ويدللونها ويلاعبونها لن يسهروا بها بعد ذلك لذهابهم مبكرًا إلى المدرسة، فما العمل؟ وما الحل؟
لم نجد حلًا سوى اقتسام الوقت بينى وبين زوجتى.. فاخترت أن أجلس معها الليل كله حتى التاسعة صباحًا، ومن التاسعة صباحًا تتسلمها زوجتى حتى عودة الأولاد من المدارس، ليحملوها بعض الوقت لتجهيز الغداء فقط، مع اعتماد كل منا على نفسه فى طعام الإفطار والعشاء، باستثناء أيام الإجازات الأسبوعية.
وهكذا صرت أبيت معها كل ليلة أغنى لها تارة.. ألاعبها تارة.. أسقيها الببرونة تارة.. أعطيها ورقة تلعب بها.. وأخترع لها ألعابًا تضحكها، وأضع لها كمادات المياه الباردة على رأسها تارة، فهؤلاء المرضى عندهم درجة زيادة فى الرأس، وهذا يصدعها ويمنعها من النوم.
وأضع كل هذه الأدوات بجوارى، فإذا نامت كتبت ما ينبغى علىّ كتابته من مقالات.. وإذا بكت حملتها ومشيت بها فى الشقة.. قائلًا لها: «لولا البرد يا نوران لمشيت بك فى الشارع فى الثالثة صباحا».
وكانت تسعد جدًا لمن يأخذها فى حضنه ويمشى بها، فتسكت وتنام، أو تنظر إليه سعيدة.
لقد عزمت أنا وزوجتى أن نهب لها حياتنا، وألا نقصر معها فى أى شىء، أو نبخل عليها بشىء، لأنها مسؤوليتنا الشرعية فى المقام الأول، كما أن رعايتها من أخلص الأعمال، لأنك لن تنتظر منها جزاءً ولا شكورًا، ولا نفعًا أو ردًا لجميل، ولكنها كانت ترد الجميل بنظراتها العميقة الحانية.
لقد ذكرتنا «نوران» بضعفها ووهنها بنعم عظيمة، فكنا نقول لبعضنا: «سبحان الله كروموسوم واحد زيادة فى الجسم يصنع كل هذه المشكلات.. التفاف فى الشريان الرئوى يؤدى إلى كل هذه المتاعب».
لقد أعطانا الله الكثير مجانًا وبغير حساب قبل ذلك، ولكننا لم نعرف قيمة هذه النعم، ولم نشكر ربنا حق الشكر.
فآه لو ركبنا سيارة أو قطارًا ضعيف التكييف، أو ذهبنا إلى بيت ليس فيه هواء متجدد.
لقد منعنا أنفسنا من معظم الزيارات الاجتماعية من أجلها، ولم نخرج بها إلا فى وقت مناسب لها، فقد كانت تتضايق جدًا من الشمس، ومن البرد أيضًا.. وفى الوقت نفسه تحب الهواء المتجدد الجميل، وتحب النوم فيه، وكانت تنام بطريقة معينة تناسب مرضى القلب، وكنت أقول لنفسى: «إنها لا تحب أى غطاء، فماذا أفعل يا رب إذا جاء البرد وهى لا تحب أى غطاء، وتضخم قلبها يضر جهازها التنفسى ويجعله ضعيفا».
فقد كانت تحب أن تنام بدون غطاء وفى الضوء والضوضاء، حتى تطمئن لوجودنا جميعًا حولها.
ولم أكن أدرى أن الله سيعافيها ويعافينا جميعًا من هذه المشكلات قبل اشتداد البرد.
لقد دلتنى «نوران» على الكفاح العظيم للأمهات مع الأولاد، وأن ذلك الكفاح أعظم من صلاة النوافل، ومن قيام الليل، ومن صوم السنن، بل ومن الدعوة إلى الله، لأن الدعوة إلى الله فرض كفاية، ورعاية الأم لابنها فرض عين عليها لن يقوم بها غيرها.
ولولا أن شهر رمضان الماضى جاء هذا العام أثناء الإجازة الدراسية ما استطاعت زوجتى أن تصلى ركعة واحدة فى قيام الليل.
لقد خرجت من هذه التجربة الثرية بأن عطاء الأم الحقيقى يكون أولًا مع أولادها وزوجها وبيتها، فإذا أتمته كان لها أن تشارك فى غيره مما يفيدها أو يفيد المجتمع، أو مما تحتاج إليه، أو يحتاج إليه مجتمعها.
وأيقنت أنه لا ينبغى علينا أن نحكم على المرأة المسلمة من عطائها الدعوى، أو مواظبتها على حضور حلقات القرآن والعلم فى المساجد، أو نشاطها فى مجال الدروس الدينية أو غيرها فقط.
ولكن يحكم عليها أولًا وقبل كل شىء بحسب درجة رعايتها وعنايتها وتربيتها لأولادها، وحسن تبعلها لزوجها، وذلك بعد أدائها فروض دينها.
أما الذين يركزون حكمهم على المرأة المسلمة والتزامها بالدين من نشاطها الدعوى أو السياسى، أو مواظبتها على حضور النشاطات الدعوية للمساجد أو الجماعات أو عملها خارج بيتها.. فهؤلاء لم يعرفوا حقيقة الرسالة الأصلية للمرأة المسلمة.. بل للمرأة عامة.