يقول كاليجولا، إمبراطور الرومان فى المسرحية العظيمة التى كتبها ألبير كامى: «الآن أنا على يقين بأن هذا العالم على النحو الذى وجد فيه غير محتمل، لهذا السبب فأنا أحتاج إلى القمر، أو إلى السعادة أو إلى الخلود.. شىء ما قد يبدو ربما شيطانيًا لكنه ليس من هذا العالم».
وألبير كامى- كما نعرف- واحد من الكتاب الوجوديين الذين يرون العالم وجودًا قائمًا بذاته، ليس للإنسان فيه قدرة على تجاوزه، بل العكس الإنسان فيه غريب منذ البداية إلى النهاية، فهو يولد دون إرادته، ويموت دون إرادته، وبين الحياة والموت يكون للآخرين الحظ الأوفر فى تسيير حياة الإنسان، مرغمًا فى كل الأحوال. فأنت تلبس ما يعجب الناس، وتفعل ما يرضيهم عنك، فالآخرون هم الجحيم، وليس أمامك من مساحة للحرية غير الجنون أو الانتحار. الوجودية فلسفة عظيمة رغم ما يبدو فيها من يأس، عبرت عنها من قبل أسطورة «سيزيف» اليونانية. فـ«سيزيف» حكمت عليه آلهة الأولمب اليونانية أن يرفع صخرة إلى أعلى الجبل، لكنه حين يصل تسقط الصخرة، فيعود ليحملها من جديد، وهكذا لا يستطيع الفكاك مما كتبه له القدر. وربما أيضا كانت أسطورة «أوديب» تجليا لهذه الحياة المقررة علينا سلفا، فوالد أوديب، «لايوس»، ملك طيبة اليونانية، عرف من العراف الشهير لمعبد أبوللو أنه سيولد له غلام يقتله ويتزوج زوجته، أى أم الغلام، ومن ثم حين أنجبت «جوكاستا» طفلها منه، ربط أبوه «لايوس» قدميه وأعطاه لراع ليلقى به فى الغابة، لكن الراعى أشفق عليه وأعطاه لراع آخر فى قرية أخرى ليربيه. كبر «أوديب» وصار شابا ثم أخبر بحقيقته وأنه ليس ابنا للراعى، لكن وجدوه فى الغابة، فترك «أوديب» القرية ومشى فى الغابة ناويًا الذهاب إلى طيبة، قد يعرف له أصلًا. فى الغابة قابل شخصًا يقود عربة تجرها الخيول كاد يصطدم به، ونهره الرجل فلم يتحمل «أوديب» وقتله، وتركه مكانه، ومشى ليدخل طيبة فيجد على بابها وحشا - أبوالهول - يقول لأهل المدينة «فزورة» من لا يستطع حلها يقتله ويلتهمه. استطاع «أوديب» حل «الفزورة» فألقى الوحش نفسه من فوق الجبل فاحتفلت به المدينة، وزوجوه الملكة التى قتل عنها زوجها منذ قليل فى الغابة! بعد ذلك حط الطاعون على طيبة، وأعلن «تريزياس»، عراف معبد أبوللو، أن الوباء بسبب الخطيئة التى لا يعرفها أحد وتعيش بينهم. وبالطبع «أوديب» الملك الآن قرر أن يعرف، وفى نقاش مع «تريزياس» عرف منه أن الملك قتل بالغابة، وكان فوق عربته الملكية، فعرف «أوديب» أنه قاتله، وعرف «تريزياس» من «أوديب» أنه عثر عليه منذ زمن فى الغابة مربط القدمين، ورباه راع فى قرية قريبة، فعرف أنه ابن الملك المقتول، ومن ثم فـ«جوكاستا» هى أمه، وهكذا تحققت النبوءة القدرية، وفقأ «أوديب» عينيه، ومشى هائمًا فى الجبال، وهذه قصة أخرى. المسرحية اليونانية بنت المجتمع العبودى الذى كان يحكمه السادة، ومن ثم كل شىء فيه مقدر سلفا، ولا أحد يستطيع تغييره أو التمرد عليه، شيئًا فشيئًا تغيرت هذه النزعة فى مسرحيات يوريبيدس وأرستوفان، لكن ظل القدر إلى حد بعيد هو المهيمن على المصائر. الوجودية ليست بنت المجتمع العبودى، على العكس ظهرت فى فرنسا، وقبلها فى نهاية القرن التاسع عشر عند كيركيجارد. وهذه بلاد رأسمالية تعرف الديمقراطية، وإن اختلفت تجلياتها. الوجودية فلسفة مثالية لها تفسير للوجود، ولما وراء الوجود، وللإنسان والمعرفة وغير ذلك مما تتناوله أى فلسفة، وما قلته من البداية هو إيجاز، وهو الذى يؤثر فى الأدباء، ويصل عند ألبير كامى إلى حد أن سوء التفاهم يصنع جرائم، مسرحية «سوء تفاهم».
فى مسرحية كاليجولا، الإمبراطور الرومانى يريد تحقيق الخلود، ومن ثم هو يريد أن يأتى بالقمر، وحين يقول أو السعادة أو الخلود فكلها تجليات لإمساك القمر، لأنه هكذا يكون مفارقًا للحياة البشرية وأعظم منها. ومسألة الخلود مسألة كبيرة فى التراث الإنسانى، ومن أكبر تجلياتها ملحمة جلجامش البابلية، لكن الوجودية فى النهاية متمثلة فى فيلسوفها الأكبر جان بول سارتر منعزلة عن القضايا الاجتماعية، ومن ثم عقد سارتر نفسه زواجًا بينها وبين الماركسية، وكتب كتابه «الأدب الملتزم»، وكان الوجوديون أول المتقدمين للدفاع عن فرنسا مع الماركسيين أمام الاحتلال النازى، على عكس ما يمكن أن يتصور أحد. لكن يظل حلم جلب القمر، حلم تحقيق المستحيل، حلم البشرية، ويمكن صياغته فى الثورات التى مرت عليها بعيدًا عن الفلسفة، فكلها تحلم بعالم سعيد، لكنها لا تصل إليه إلا بقدر تقدمها فى الثورة. الثورة الفرنسية رغم أنها كانت مواكبة لنشأة الرأسمالية ضد الإقطاع والملكية، فإنها تعثرت كثيرًا وعادت الملكية مرة أخرى، وحدثت ثورة ثانية عام 1830، وبعدها انتفاضات وثورات حتى صارت فرنسا منارة الحرية. أقول رغم أن الثورة الفرنسية جرت مع ظهور الرأسمالية، أخفقت كثيرًا حتى وصلت إلى غاياتها.. الثورة المصرية حدثت ولا تؤازرها أى طبقة مالية، رأسمالية أو إقطاع، حتى الطبقة الوسطى كانت فى الأربعين سنة السابقة على الثورة قد تم تقريبًا القضاء عليها، إما بصعود بعضها، وهو القليل، مع الحزب الحاكم، أو بسقوط أغلبيتها إلى الحضيض. الذين قاوموا السقوط أو الارتفاع المشين فقط- وهم الأقلية- هم الذين آزروا الثورة. لكن هؤلاء ليس معهم لا قوة المال، ولا قوة السلاح، والثورة أصلا سلمية فى عالم مسلح!
الثورة المصرية إذن تعانى مما حولها، ومن ثم فطريقها طويل، لكن المهم أن يظل هناك الأمل فى تحقيق السعادة. والأوقع طبعًا تحقيق المستحيل الذى إذا لم تصل الثورة إليه، وصلت إلى عتباته. فالوجودية هنا فلسفة ناجحة رغم ما يبدو فيها من يأس، ولن تنجح الثورة إذا كانت هناك حلول وسط، لابد من التمسك بالقمر أو السعادة أو الخلود، والتمرد على الوجود الذى هو أكبر من المجتمع.. باختصار الخروج من وضع «سيزيف».
طبعًا من سيقرأ هذا المقال سيقول إن صاحبه لم يذكر لنا شيئًا فى نظريات التحول الاجتماعى، ولا صراع الطبقات، ولا التحدى والاستجابة، ولا غيرها، لا فى الاشتراكية، ولا فى الأناركية، ولا فى غيرها، والحقيقة أنه قد يكون اليأس هو الذى أخذنى إلى الوجودية الآن، وذكرنى بها، لكنها رغم ذلك أخذتنى- الوجودية- إلى الثورة، وهو المطلوب.. فلتكن العيون على المستحيل!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة