وحشتنى والله ياعم القارئ.. أعود إليك اليوم بعد غياب بحكمة تقول: (الحفاظ على الثورات فن.. وإيران هى الموطن الأصلى لهذا الفن)
(1)
7 أيام كاملة يتخللها ساعات قليلة من النوم والكثير من البحث والجرى والمشاهدة فى شوارع إيران انتهت فى عقلى إلى صورة تقول: «كل شىء فى طهران ينبض بالثأر؟، وكل شىء فى القاهرة عن طهران ينبض بالمغالاة والتحريف».. هل أدركت المعنى؟
ليس مهما أن تدرك شيئاً، المهم معرفة أن كل متر مربع فى شوارع إيران لا يخلو من صورة لشهيد، قائمة طويلة من الشهداء تطاردك بوجوهها أو بأسمائها أو بقصصها فى كل مكان.. شهيد كربلائى، وآخر من عصر الرسول عليه الصلاة والسلام، وآخر من شهداء الثورة الإسلامية ورابع وخامس وسادس من شهداء الحرب مع العراق وحتى شهداء التدريبات العسكرية أو المراسلون الإعلاميون الذين سقطوا أثناء تغطية حرب حزب الله مع إسرائيل قبل سنوات من الآن.
(2)
1050 يوماً بالتمام والكمال يتخللها ساعات قليلة من الفرحة ونشوة النصر والكثير من الدم والدموع والقهر والنسيان فى شوارع مصر تنتهى فى عقل كل واحد فيكم بصورة تقول: «سعر اللتر من دم المواطن المصرى أرخص من سعر لتر الكوكاكولا».. هل أدركت جوهر المأساة؟
ليس مهما أن تدرك شيئا، المهم معرفة أن شهداء مصر منذ أكتوبر وحتى ما بعد ثورة 25 يناير وموجاتها المتلاحقة تتأذى أرواحهم فى ملكوت الرحمن بسبب الإهمال وثأرهم الضائع بين قوى سياسية تصنع من جثث الشهداء شعارات تعلو بها فى عوالم السياسة ثم تصرفهم إلى أقرب مصرف من مصارف النسيان، وبين شعب يبكى بحرقة حينما يرى لون الدم الأحمر وينسى بشدة حينما ترفض الأرض أن تشرب الدماء وتحيلها إلى مجرد بقعة سوداء بها بعض كتل التجلط..
(3)
لن أذهب معك إلى مقارنة الواقع المصرى مع الواقع الإيرانى من النواحى الاقتصادية والبنية التحتية والنظام والمرور والنظافة وثقافة الالتزام بالقانون لأن المقارنة لن تكون فى صالح حالتك النفسية بكل تأكيد، أنا فقط سأقول لك بأن كل مواطن إيرانى مطالب بأن يثأر للشهداء، لشهداء الثورة الإيرانية بنفس مقدار رغبة الثأر لسيدنا الحسين رضى الله عنه، هكذا يشعر أو مفروض عليه أن يشعر بسبب الأجواء التى تطارده من كل فج إيرانى قريب أو بعيد، وفى زمن اللاحرب واللادم الذى تعيشه طهران كان طبيعيا أن تتحول كل هذه الطاقة الثأرية للمواطن الإيرانى الذى لا يقل متوسط ساعات عمله اليومى عن 10 ساعات إلى دافع إنتاجى جعل إيران قوة عسكرية واقتصادية ذات وزن وشأن ولها مقعد ضمن صفوف الكبار..
(4)
هنا فى أرض المحروسة.. كل مواطن مصرى يبحث عن الثأر للشيخ عماد عفت أو أحمد بسيونى، أو يسأل عن مصير رحلة القصاص لروح الحسينى أبو ضيف أو جابر جيكا أو محمد كريستى أو مينا دانيال، يجد نفسه فى قفص الاتهام بتعطيل عجلة الإنتاج والنبش فى قبور الماضى ويصبون فى آذانه الكثير من عبارات «عفا الله عما سلف، مش وقته وضع البلد لا يسمح وهناك من يريد إشاعة الفوضى».
هناك فى إيران كل شارع يحمل اسم شهيد.. وكل جدار يحمل صورة شهيد، وهنا فى القاهرة تذكروا بعد أكثر من 1000 يوم أن للشهداء حقا فى نصب تذكارى، ويخشى المسؤولون فكرة إطلاق اسم شهداء الثورة على الشوارع والأحياء الصغيرة وكأننا نطلب منهم فعلاً من أفعال الحرام.
هناك فى إيران يرتدون السواد ويقيمون العزاء ويحلمون ويعملون بهدف الثأر لسيدنا الحسين الذى استشهد عام 60 هجريا أى قبل أكثر من 1370 سنة، والثأر لشهداء الثورة الإيرانية الذين سقطوا قبل حوالى 30 سنة، والقصاص لشهداء الحرب مع العراق الذين سقطوا قبل حوالى 20 سنة، وهنا فى القاهرة لا نتذكر شهداء أكتوبر إلا بإكليل زهور، ولا نرى فى المطالبة بالثأر لشهداء ثورة 25 يناير الذين لم تبرد دماؤهم بعد ولم يمر على استشهادهم غير أيام وشهور سوى أنها مطالب تضييع وقت و«خيابة»، هناك فى طهران يحيون ذكرى معارك سقوط ضحاياهم لكى تكون دافعا لبناء وطن وهنا فى القاهرة نعتبر إحياء ذكرى محمد محمود خيانة وعداء للوطن.
(5)
هناك فى طهران وداخل المتحف الحربى بكى مرافقى الإيرانى العم «إسماعيل رياحى» صاحب الشعر الأبيض والمحارب السابق فى حرب إيران مع صدام، بكى وهو يتذكر تفاصيل الحرب ويحكى حتى سقط من فرط بكائه على الأرض وهو يقول :«لا أدرى أى ذنب ارتكبته حتى بخل الله على بالشهادة»، وهنا فى القاهرة يقول الشباب والشياب: «لا ندرى أى ذنب ارتكبناه حتى يبتلينا الله بالعيش فى هذه الأرض غير المكرم أهلها من قبل نخبتها وحكامها».