«الفِيلُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْفِيلُ، لَهُ ذَنَبٌ وَبِيلٌ، ولَهُ خُرْطُومٌ طَوِيلٌ»، «يا ضفدع بنت الضفدعين.. نقى ما تنقين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك فى الماء، وذنبك فى الطين». «والليل الأطحم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم والليل الدامس والذئب الهامس ما قطعت أسد من رطب ولا يابس». «وَالطَّاحِنَاتِ طَحْنًا، فَالْعَاجِنَاتِ عَجْنًا، فَالْخَابِزَاتِ خَبْزًا، والآكلات أكلا، فاللاقماتِ لقما، إِهَالَةً وَسَمْنًا».
كانت تلك بعض المقاطع مما يسمى بـ«قرآن مسيلمة» ذلك الرجل الذى ادعى النبوة ونسب لنفسه قرآنا حاول فيه محاكاة النسق القرآنى البديع بكلمات مسجوعة لا تحمل إلا ركيك المعانى وسفه القول، لكنها مع ذلك وجدت آذانا صاغية وأتباعا على استعداد أن يضحوا بأنفسهم لأجل واضعها. وليس من العجيب أن يتبع الناس أهل البلاغة والفصاحة وسحر البيان، وهو ذلك الوصف الذى أطلقه النبى صلى الله عليه وسلم على بعض البيان فقال: «إن من البيان لسحرا». ولكن العجيب حقا والذى يجعل المرء فى حالة من الدهشة هو اتباع الجموع لمن يفتقد أدنى معايير المنطق أو حتى البلاغة وسحر البيان بل ربما تجد لسانه مسلطا عليه يوجهه إلى فضح نفسه وبيان كذبه وتهافته، كما كان الحال عند مسيلمة الذى لا يتصور أن يُخدع عاقل بكلام من نوعية كلامه، بل إن المتأمل فى قرآنه المزعوم يشعر أن الله قد قهر لسانه فجعله ينطق بأعاجيب حملت دلائل كذبه وسفاهته وركاكة أسلوبه وضحالة أفكاره فى طياتها، لقد كانت كلماته نموذجا عجيبا لقهر اللسان، ولعل ذلك من تجليات اسم الله القهار الذى يقهر ألسنة المدعين، فتنطق بما يكشف سترهم ويفضح سريرتهم ويُجلى للخلق حقيقتهم وليهلك من هلك عن بينة.
لقد ورد أن سيدنا عمرو بن العاص رضى الله عنه قد لقيه قبل إسلامه فتلا عليه مسيلمة الكذاب إحدى خزعبلاته يقول فيها: يا وبر إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر، ثم سأله: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له سيدنا عمرو: والله إنك لتعلم أنى أعلم أنك تكذب. لقد علم عمرو بن العاص ذلك وعلمه كثيرون أنفوا أكاذيبه المثيرة للسخرية، لكنه رغم ذلك وجد من يتبعه بل من يهلل له ويفديه بدمه وذلك لشىء يقال له الهوى.. الهوى الذى يعمى عن كل شىء آخر. يتفرع عن ذلك الهوى كل فروع التعصب والتحزب والبراجماتية العفنة التى لا تحرص إلا على مصالحها أياً كانت السبل الموصلة لتلك المصالح، ولذلك أعلنوها صريحة: «وإن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضَر» كأنهم يقولون بصراحة ومن الآخر: سنتبعه رغم علمنا بكذبه وسفاهته، لقد أقروا بكذبه كما أقروا لنبينا صلى الله عليه وسلم بالصدق الذى طالما عُرف به وطالما ظهر فى كلامه وظهر أكثر من خلال الوحى المنزل من عند ربه يتلوه عليهم ويسمعونه ويؤثر فيهم حتى يقول أحدهم عن ذلك الوحى «إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه». هذه الكلمات قالها عن القرآن رجل مشرك لكنه مع جمال وصفه للقرآن لم يتبعه وآثر هواه وغلبت عليه عصبيته كما غلبت على قوم فرعون الذين قال الله عنهم «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً». لقد استيقنوا صدق رسالة موسى فى أنفسهم لكنهم مع ذلك جحدوها على الملأ واتبعوا أمر من استخفهم، كما اتبع أقوام من بعدهم مسيلمة وكل مسيلمة لا لشىء إلا لأهواء عبدوها ومصالح طلبوها وعصبيات اعتنقوها حتى لو كان شعار أصحابها: «الفيل وما أدراك ما الفيل».