تفتح وعيى بالشأن العام من بوابة اليسار، فهو مدرسة معرفية راقية وفلسفة اجتماعية مُغرية خاصة لصبى مثلى، كنت تلميذًا بالمرحلة الثانوية، وتعلمت كثيرًا من قامات يسارية منهم عبدالمحسن طه بدر ونبيل الهلالى ومحمد مُستجاب وأمل دنقل وغيرهم، وكنت أهرب من «مدرسة المتفوقين» التى تخرجت فيها لأذهب لمقر «حزب التجمع» و«حوش قدم» لأستمع للشيخ إمام وأشعار الفاجومى، وخلال هذه المرحلة عرفت كثيرين من اليساريين.
بعدها أخذتنا دروب الحياة لطرق شتى، فمن توفى مثل حازم شحاتة ويحيى الطاهر عبدالله وأحمد جودة وغيرهم، ومن انخرط بحزب «التجمع» و«الحزب الشيوعى»، ومن ذهب لأقصى «اليسار التروتسكى»، الذى كنت أراه رغم «مثاليته الطوباوية»، منفصل عن المجتمع الذى يُشكّل الدين أهم مكوناته الوجدانية، لهذا نشبت معارك بين التروتسكيين و«اليسار الإسلامى» الذى تبناه حسن حنفى وخليل عبدالكريم برؤى مختلفة، وعقب هزيمة 1967 ظهرت تنظيمات الإسلام السياسى وفى صدارتها جماعة «الإخوان المسلمين» و«الجماعة الإسلامية» التى نشأت بكلية طب قصر العينى بقيادة عبدالمنعم أبوالفتوح وزملائه، الذين التحقوا بالإخوان، بينما ظل آخرون بالجماعة الإسلامية و«تنظيم الجهاد»، ولن أنسى المواجهات العنيفة بين اليساريين، وكنت أصغرهم حينذاك، والجماعات الإسلامية نهاية السبعينيات، وكانت سلطة السادات تدعم الإسلاميين وتعتقل اليساريين.
لاحظ المرحوم والدى إهمالى للدراسة وانخراطى بالسياسة وولعى باليسار المُستهدف، فتصرف كأب تقليدى وأجبرنى على الالتحاق بكلية الشرطة ليمنعنى من المضّى قُدمًا باليسار، فكنت أقضى إجازات نهاية الأسبوع بصُحبة الرفاق الأحياء لليوم شهودًا على هذه السطور، تخرجت فوجدتنى فى موقع بعيد عن عالمى الأثير، فاكتفيت بالقراءة المنهجية، ونشر المقالات بالصحف، واعترض جهاز أمن الدولة على نشر مقالاتى ونقلنى لأسيوط، التى عاصرت فيها «محنة التسعينيات»، والتى عادت الآن بموجة أكثر شراسة عقب إطاحة مرسى وجماعته، وعدت للعمل بمكتب حسن الألفى وزير الداخلية الأسبق، حتى استقلت فى بداية عهد حبيب العادلى 1997. بهذه الإطلالة العابرة رسخت بوجدانى ثلاثة أمور: الانحياز للبسطاء والمهمشين، التراكم المعرفى، والخصومة العميقة للإسلام السياسى بمختلف تنوعاته، خاصة أننى عرفت الكثير خلال مواجهتهم وقرأت أدبياتهم، والتصقت بالشهيد فرج فودة، لدرجة اعتبرنى «الابن الروحى»، وعملت بقضيته حتى ضبطنا القتلة. عبر رحلة العمر كنت أحسب أن اليسارى الحقيقى «خصم طبيعى» للإسلام السياسى، لكنى الآن بعد عقود أرى العجب العُجاب، فيدعم «الاشتراكيون الثوريون» اليمين الدينى بأكثر صوره انحطاطًا، وحينما ناقشتهم وجدتهم يكررون «محفوظات مدرسية» كانت تهيمنى أثناء مراهقتى، وكانت سببًا لمراجعة قناعاتى لأقف بمنطقة «يسار الوسط» مؤمنًا بالليبرالية الاجتماعية، وكثيرا ما ابتسمت حينما سمعت «اليسار الضال»، يجعجع لأردد فى قرارة نفسى: «ليت اليسار يعود يومًا.. لأخبره ما فعل الرفاق».