إذا كان الدستور الجديد قد أعلن أن اللغة العربية الفصحى هى لغة البلاد الرسمية كما قررت الدساتير السابقة، فلا أحد يعرف ما مستقبل هذه اللغة فى ظل أوضاع تسدد لها الطعنات فى كل لحظة؟ الأمر الذى يشير بأن كلام لجنة الخمسين قد يكون من باب فض (المجالس الدستورية).
المتأمل الآن للغة العربية الفصحى سيعتريه الغم مما وصلت إليه حال هذه اللغة، فوسائل الإعلام المرئية والمسموعة تتعامل معها باستهانة واستخفاف، فبرامج (التوك شو، لاحظ اسمها الإنجليزى) على سبيل المثال لا تهتم بها على الإطلاق، إذ أن مقدمى هذه البرامج يخاطبون الجمهور باللهجة العامية بزعم أنها الأقرب للناس، كذلك يفعل ضيوفهم إلا من رحم ربى. وإذا كان من الصعب الموافقة على ذلك، فإنه من المحال قبول ما يحدث فى الصحف والمجلات، حيث صارت اللهجة العامية تتصدر عناوين بعض الصحف، كما واظب صحفيون مشهورون وكتاب (كبار) على صياغة مقالاتهم باللهجة العامية، والغيور قليلاً على الفصحى لا يمانع أن يطعم مقاله بمفردات عامية بعضها مستعار من بئر الركاكة اللفظية!
عندى ثلاث ملاحظات حول الموضوع قبل أن أكمل:
الأولى: إن الكاتب أو الصحفى الذى يلجأ إلى استخدام اللهجة العامية محروم فى الأغلب من امتلاك قاموس لغوى مزدهر وحيوى، الأمر الذى يدفعه إلى الاستعانة بالمفردة العامية، ليشرح بها وجهة نظره، ناسيًا أو جاهلاً أن التعبير العامى ليس بقوة تأثير العبارة الفصيحة إلا فيما ندر.
أما الملاحظة الثانية فتتمثل فى أن تعليم اللغة العربية فى مدارسنا وجامعاتنا يمر بمأزق مخيف من سنة إلى أخرى ومن قرن إلى آخر، ما يجعل الشباب الجديد لا يعى قوانينها، ولا يدرك تنوعها ولا يستمتع بحلاوتها، فيتعامل مع لغتنا الفصحى بغضب إن لم يكن بتأفف وكراهية!
الاهتمام المبالغ بتعلم اللغة الإنجليزية، لعب دورًا مؤسفًا فى إهمال تعلم لغتنا الفصحى هى ملاحظتى الثالثة، وأولياء الأمور معهم حق فى ذلك الاهتمام، فلا يمكن للشاب الآن أن يدخل سوق العمل إن لم يتقن لغة أجنبية واحدة على الأقل، لكن أين الحكومات المصرية طوال أربعين سنة؟ وكيف أهدرت دم لغتنا الفصحى مجانًا؟ ولماذا لم تتخذ تلك الحكومات قرارات تحمى وتطور لغتنا الأم؟ فى الوقت الذى تشجع فيه تعلم لغات أجنبية أخرى، فلا تناقض بين أن تكون على دراية جيدة بلغتك الأم ولغة أجنبية أخرى!
أظنك تعرف أن اللغة كائن حى قابل للنمو والازدهار إذا تلقى الرعاية الواجبة والاهتمام اللائق، كذلك يمكن للغة أن تمرض وتشيخ وتموت إذا أهملها أهلها وأهانوها وامتعضوا عند التعامل بها.
ويذكر لنا تاريخ كم من اللغات قد انقرضت وماتت، لأن شعوبها لم تسعَ إلى تطويرها، ولك أن تتخيل الجهد الجبار الذى بذلته (إسرائيل) لتعيد إحياء لغتها الميتة، وأقصد العبرية، وقد نجحت فى ذلك إلى حد بعيد بكل أسف!
لا يغيب عن فطنة اللبيب أن وسائل التواصل الاجتماعى الحديثة (فيسبوك، تويتر) قد أسهمت بنصيب جبار فى التعدى على لغتنا الفصحى وإهانتها، حيث بات الجميع تقريبًا لا يستخدم سوى اللهجة العامية عند الكتابة فى هذه الوسائل، الأمر الذى سدد طعنات قاتلة فى جسد الفصحى، وأخشى أن تكون جنازتها قد اقتربت.
لا تقل لى من فضلك إن الله عز وجل أخبرنا فى القرآن الكريم بهذه الآية (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )، وبالتالى لا خوف على اللغة الفصحى، لا.. لا تقل ذلك، لأنك لو تأملت قليلاً فى معنى الآية الكريمة ستكتشف أن المولى عز وجل هو الذى أنزل القرآن وهو الذى سيحفظه.. حسنًا.. وماذا نحن فاعلون؟ فقد يحفظ الله القرآن ولغته فى مكان ما لا يعلمه أحد، لكن ماذا فعلنا نحن لنحفظ لغتنا من الانهيار الوشيك؟
تبقى كلمة أخيرة.. لم يحفظ لنا التاريخ أية إبداعات جميلة أو مقالات مهمة سوى باللغة الفصحى، فمنذ المتنبى وحتى شوقى، ومن أيام الجاحظ والنفرى حتى طه حسين وهيكل وأحمد بهاء الدين والكتابة بالفصحى هى المؤثرة والدائمة مادام أصحابها يمتلكون المواهب المتدفقة التى تجعل اللغة تنساب بيسر والأفكار تنهمر بسهولة، وإذا كنت فى شك مما أقول حاول أن تذكر كاتبًا أو صحفيًا مهمًا ومؤثرًا فى القرن العشرين اتكأ على العامية أكثر من استخدامه للفصحى؟