يقول الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم فى إحدى مقطوعاته الموجزة الكاشفة: «مُر الكلام زى الحسام يقطع مكان ما يمر.. أما المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضر.. والكلمة زين من غير إيدين بس الوفا ع الحر».. ولا أجد أحدًا اليوم يستحق «مر الكلام» أكثر من الشيخ على جمعة، مفتى الديار المصرية الأسبق، والذى دخل إلى اللعبة السياسية هذه الأيام بكامل حمولته، وبدأ فى تكوين الجبهات، وعقد المؤتمرات، وإصدار البيانات، وهو الأمر الذى يضعه فى عداد السياسيين لا رجال الدين. لكن هذا ما قد نسيه الشيخ، وبدأ فى عملية خلط «متعمدة» بين الدين والسياسة، وكأنه يريد أن يستفيد من أسوأ ما تميز به حكم الإخوان، متخذًا من «حكم المرشد» دستورًا ومثالًا وقدوة.
ويبدو أننا سنعانى كثيرًا خلال الأيام المقبلة من آفات حكم الإخوان وموبقاته، فالدكتور على جمعة الذى يعد أحد أنصار التيار المدنى قال فى مؤتمر جبهة «مصر بلدى» الذى يترأسه إن الموافقة على الدستور «واجب»، وإن هذا الدستور «مؤيَّد من الله»، مطالبًا الجميع بأن يذهبوا إلى صناديق الاقتراع يوم الاستفتاء، منتصف الشهر المقبل، للإدلاء برأيهم فى الدستور الجديد، واختيار «نعم»، لا لأن الدستور يحقق العديد من المزايا النسبية لمواطنى مصر، ولا لأنه يحدد حقوق المواطن وواجبات الدولة بالشكل الذى يسمح ببناء مجتمع قوى، لكن لأنه «مؤيَّد من الله»، وهو ما يعد إعادة لخطاب جماعات الإسلام السياسى التى لفظها شعب مصر، وإعادة إنتاج لمقولة الشيخ محمد حسين يعقوب فيما عرف بخطبة «غزوة الصناديق» التى قال فيها «وقالت الصناديق للدين نعم».
نعم هناك فرق كبير بين خطاب «جمعة» وخطاب «يعقوب»، كما أن هناك اختلافًا كبيرًا بين دولة «جمعة» ودولة «يعقوب»، فاستخدام الدين فى دولة «يعقوب» كان هو الأساس، بينما استخدام الدين فى دولة «جمعة» فرع. لكن لأن المبادئ لا تتجزأ، ولأن خطورة استخدام الدين فى السياسة واحدة، فإننى أعتبر أن الدكتور على جمعة قد انحاز للاختيار الأفشل، ليدمر بهذه الكلمة المرسلة أهم الأسس التى قامت عليها ثورة 30 يونيو، وهو أساس فصل الدين عن الدولة، أو فصل الإلهى عن البشرى.
وهذا الدستور- وإن كنت أميل إليه، وأراه أفضل بآلاف المرات من دستور الإخوان- ليس قرآنًا، ولم يهبط به ملك، ولم يبشر به رسول، ولا يجب أن نضع المصريين فى ذات الخندق الذى وضعنا فيه الإخوان والسلفيون من قبل، فلا تعنى كلمة «جمعة» سوى أن الهجوم الذى شنه على الإخوان وقت أن كانوا يحكمون لم يكن خالصًا لوجه مصر، ولم يكن اعتراضًا على إقحام الدين فى الحياة السياسية، إنما كان من أجل الصراع على احتكار الدين، وإزاحة لمنافس قوى خارج حلبة الحديث باسم الله.
إزاء موقف كهذا، لا يجب أبدًا أن نغمض الأعين عما يجرى الآن من محاولة استنساخ أسوأ ما فى نظام مبارك، وأسوأ ما فى نظام الإخوان، فما أحوجنا- ونحن نحاول النهوض بهذا البلد المترنح- إلى أن نستلهم تجارب النجاح، ونماذج التحقق الحضارى، لكن أن نستعيد موبقات العصريين الإخوانى والمباركى فهذا هو القبح بعينه.. وكلمة أخيرة لمن يحكمون الآنش: حاولوا أن تستفيدوا من التجارب السابقة، وكونوا على يقين بأن الوجوه «المحروقة» التى كانت الدعامة الأساسية للأنظمة السابقة لن تنجيكم، ولن تصعد بكم، فلو كان فيهم الخير لنفعوا من تولوا قبلكم.