منذ ٢٥ يناير ٢٠١١ والواقع السياسى مرتبك ومتحرك بل وسائل أيضًا، ولا يخفى على أحد أن ميادين الثورة ما زالت نشطة مخصبة بالحركة ومؤهلة للفوران فى أى دقيقة، وبرغم وجود إعلانات دستورية ودساتير وسلطات منتخبة كرئيس وبرلمان ما بين عامين مضيا إلا أننا ندور فى نفس فلك التصحيح والتغيير حتى الآن ولم نبرحه لمربع الثبات، ولم تبرح حجج التأكيد على أن الثورة مستمرة، فبعد أن انقلب الجميع على نظام مبارك إلا قلة من المنتفعين، ثم انقلب الجميع على نظام الإخوان إلا قلة من المتأسلمين والمخدوعين، ما زال الواقع السياسى يبحث له عن مرسى وما زالت أحلام الثائرين تبحث لها عن مهبط.
فحينما نزل الشباب فى يناير ويونيو واستدعوا قطاعات عريضة وعميقة من المصريين للميادين لم يكن الهدف فقط مبارك أو مرسى ولكن كانت الأهداف هى قيم الحرية ومحددات العدالة الاجتماعية وشواهد الكرامة الإنسانية و"نفاذية" التغيير أو على الأقل جدية مقدماته، ولقد رسم الجالسون على إدارة المراحل الانتقالية خرائط الطريق السياسى المختلفة وبالرغم من ذلك يشعر قطاع غير قليل من المصريين أننا مازلنا نبحث عن الطريق الصحيح.
لقد قامت ثورتا المصريين فى ٢٥ يناير وفى ٣٠ يونيو من أجل تصحيح مسار سياسى ولرفع مغبة الديكتاتورية، وليس بعيدًا عنا مسيرات الثوار للاتحادية "وهنا أعنى كل قطاعات الشعب دون الإخوان" وهتافاتهم بسقوط الإخوان لأنهم استبدوا بالحكم وتعاملوا مع الشعب معاملة السيد للخادم واستخدموا فى ذلك مبررات التكفير والشرعية السياسية والكثرة العددية ولكنهم فى النهاية فشلوا فى الانتقال للأمام خطوة واحدة لأنهم لا يحكمون تحت ظل شرعية الرضا، تلك الشرعية الأسمى التى هى رمانة الميزان لأى نظام سياسى يريد أن يحكم مصر، شعب مصر الكبير وفى القلب منه شبابه يريد فقط أن يرضي!!
نقف الآن فى مفترق طرق وفى صراع مفتعل ومختلق بين ثورتين!! فثورتا يناير ويونيو لم تختلف أهدافهما من الأساس ولم تتغير مقدماتهما، فكل من الإخوان والحزب الوطنى تركوا الشعب وحكموا بمفردهم وتحلق حولهم أصحاب المنافع والمصالح الصغيرة والرخيصة، فلقد ارتكن مبارك على أنه صانع الاستقرار وارتكز مرسى على أنه ظل الإله وأنه ابن شرعى للصناديق، ولم ينفع الأول ذلك ولا الثانى ذاك، لأن الاستقرار فى حقيقة أمره ليس صناعة ولكنه زراعة تنمو أسبابه على مهل ويحتاج لرى وشمس وهواء وعناية وجو صحى، أما شرعية الصناديق فلقد دهسها الشعب بإقدامه فى شرعية أعلى وأكبر وهى شرعية الثورة.
يخطئ من يتصور أن ثورة يونيو تمهد لعودة رموز وقيادات فسدت وأفسدت الحياة السياسية، ومغالط أيضا كل من يحاول أن يصور أن تلك الثورة العظيمة قامت ضد ثورة يناير، لأن الإخوان ليسوا هم ثورة يناير، فالإخوان يقبعون فى مصر منذ أكثر من ثمانين عامًا، ولم يضبطوا يومًا متلبسين بأى ثورة على نظام مبارك بل كانوا فى حالة وئام وصناعة صفقات سياسية دائمة، ويخطئ أيضًا من يتصور أنه بتشويه بعض شباب يناير فإنه قد انتقم لنفسه من ثورة شعب أضرت بمصالحه والتى بناها على مساندة نظام لم يعط لشعبه حق الاختيار والكرامة والحرية، كما يخطئ من يتصور أن كل الثوار ملائكة وأهدافهم واحدة وخالصة لوجه الله والوطن!!
ولن أكون مبالغًا حينما أقول إن أغلبية رموز صناعة يناير اشتركوا بكل جدية فى صناعة يونيو، وهنا تكمن قوة يونيو فى أنها تصحيح لمسار وأخطاء يناير والتى ركبها الإخوان، ويستقر أيضًا مكمن قوة يونيو فى أنها صناعة المصريين فى المجمل، وعمادها قوى التوحد الاجتماعى والهوية المصرية وهم عموم المصريين وأعضاء حزب الكنبة الأفاضل، ليس من مصلحة مصر أبدًا إيقاع شرك خسيس بين يناير ويونيو، ليس من دواعى التقدم ربط أقدام حركات التحرر فى أسافين الكراهية، وتفخيخ خطواتها وتشويه كل فعل ارتكز عليه المصريين فى عمومهم، ذلك الشرخ الذى يصنعه أصحاب المصالح والهوى لن يعود على مصر بالاستقرار ولن يرد لهم مصالحهم، فتلك الأسافين بين الثورتين تعرقل خطى التقدم والتحرر وتمهد لمزيد من الاحتقان والتنابذ ما يدفع البلد لأتون تدافع محموم وحرب لن تضع أوزارها إلا على جثة الوطن.
تلك القلة التى تحاول الإيقاع بين يناير ويونيو تفتح الباب على مصراعيه لعودة الإخوان ولشق الصف الوطنى، ولإعطاء قوى الإرهاب والعنف الذريعة والأدوات للتدخل فى الخطوات التنفيذية لبناء غدٍ جديد لمصر، إن المتربصين ينتظرون أن تفتح لهم تلك الطاقة بين يناير ويونيو ليضربوا الوطن فى صميم وحدته الاجتماعية وفى عمق تلاحمه الفكرى الثورى والذى أبهر العالم فى يوم قريب.
تلك المرحلة الصعبة والتى تتعافى فيها مصر تريد جميع أبنائها وترى فى المخلصين منهم خلاصها ونجاتها، وهنا يجدر بنا المصالحة والتسامح من أجل وحدة العائلة المصرية وتفويت الفرصة على المتربصين لشق الصف، والثوار مثلهم مثل من نسبوا للحزب الوطنى دون إرادة حقيقية وقد يكون دون رضاء كامل عن أدائه، يحتاجهم الوطن الآن يدًا بيد، مصر تحتاج طاقات الجميع وإبعاد كل من أفسد وثبت عليه ذلك دون وشاية أو تضليل، هذا هو الرهان الأخير على صحة وعافية هذا الوطن مرة أخرى.