أعذرونى وأنا داخل كدة من غير إحم ولا دستور..
أخيرًا انتهت لجنة الخمسين من وضع صيغة الدستور الأخير "وربنا يجعله آخر الدساتير"، ورغم أن لحظات مخاض الدستور جاذبة لاهتمام الغالبية إلا أن علاقة المصريين بمواد أى دستور من دساتيرها الكثر، هى علاقة واهية يغلب عليها التحايل أكثر من الالتزام، وربما كان السبب فى ذلك هو ترسانة القوانين الكثيرة والتى بها من التضارب ما خلق قدرة على التحايل فاقت قوتها قوة أى دستور.
مواد دستورية كثيرة حولتها القوانين إلى مسخ رغم أن الدستور هو الإطار الرئيسى للقوانين، فمثلاً مادة تمثيل العمال والفلاحين فى البرلمان بنسبة لا تقل عن 50% هى مادة رأتها سلطة يوليو 1952 مهمة لتغيير واقع اجتماعى إقطاعى كان يهمش هاتين الفئتين وهنا أصبح من الضرورى وضعهما تحت حماية الدستور لضمان عدم تهميشهما، وبفعل القوانين الكثيرة المتعلقة بتحديد صفة العامل والفلاح، تحولت هذه النسبة إلى طريق خلفى للتحايل لبعض الأشخاص للحصول على مقعد برلمانى فى بعض الدوائر التى يكون التنافس فيها قويًا على مقعد الفئات، فيلجأ النائب المنتظر إلى تغيير الصفة مستخدمًا القوانين ولتتحول هذه المادة الدستورية إلى رمز لمرحلة أكثر منها واقع ولتظل فئات العمال والفلاحين مهمشة، وبالمثل هناك مواد دستورية ضاعت وانهارت أمام ترسانة القوانين المتضاربة.. ما علينا.. مشاهد المناقشات على مواد الدستور كشفت عن انقسام المجتمع إلى فئات كل منها يغنى ليلاه بعيدًا عن ليل الفئة الأخرى وكأن كل فئة تعيش فى دولة على خط طول مخالف للأخرى فلا تلتقى لياليهم ولا أيامهم.
بعض الإخوة الأقباط رغم أزمتهم مع التمييز المجتمعى، إلا أنهم اعترضوا على إلغاء كوتة الأقباط، فهم يرون فى التمييز الإيجابى بتحديد كوتة برلمانية لهم، حلاً متوازناً لأزمتهم! ولم تدرك هذه الفئة أن ترسيخ مفاهيم التمييز سواء كان اسمه سلبيًا أم إيجابيًا، هو فى الواقع ترسيخ لسلوك التمييز الدينى المؤدى للطائفية، وأن حل سيادة مفاهيم التمييز يكون فى مواجهتها وليس التحايل عليها.
أما الإخوة المـتأسلمين بكل طوائفهم فيحملون راية المعارضة للدستور من زاوية أنه لم يضمن تطبيق الشريعة الإسلامية على طريقتهم، فرغم أن الدستور نص على أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، إلا أن الإخوة كانوا يفضلون تفسيرًا أكثر دقة يجعل من جماعاتهم القائم الرئيسى على تحديد ماهى الشريعة وكيفية تطبيقها على نحو ماجاء فى المادة "219" من دستور مرسى 2012 وتنص على "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة"، كما أنهم ينظرون إلى المواد التى تعطى للدولة حق حماية الآداب العامة على أنها مواد تنتقص من سلطتهم، حيث كانوا يفضلون وضع هذه الرقابة فى يد المجتمع والجماعات والتى يحق لها بدورها إنشاء جماعات للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لضمان الآداب العامة بدلاً من الحكومة.
وعلى الرغم مما ذكرته حول التحايل الذى أحاط بمادة الـ50% للعمال والفلاحين وهو ما أدى بلجنة الخمسين إلى إلغائها مع ضمان حق العمال فى التمثيل البرلمانى بصفتهم الشخصية، إلا أن هذا الإلغاء لاقى اعتراضًا من بعض الفئات الناصرية والذين يرون أن الوضع القديم به من رائحة "الحبايب" ما يجعلهم يتمسكون به، خاصة أنهم لا يملكون الآن إلا روائح الزمن وذكراه العطرة، كما أن بعض النقابيين العماليين يرفضون هذا الإلغاء باعتباره انقضاضًا على مكتسب لهم، غير مبالين بقضية أهم وهى انهيار الصناعات فى مصر بما يهدد وجود الطبقة العاملة ذاتها، بالإضافة إلى أزمات الأراضى الزراعية والتى تضع مصير الفلاحين فى مهب الريح، وهى قضايا وجود لزم الالتفات إليها قبل الالتفات إلى التمييز الفئوى لجماعات وجودها مهدد من الأساس.
وأعتقد أن مصر بحاجة إلى مجتمع مترابط الفئات يغلب الوعى المجتمعى فيه على الوعى الفئوى، أكثر من حاجتها للدستور.. وداستور يا إخوانا..