أخيراً مات "المناضل المثال.. ويا ميت خسارة ع الرجال"، أخيراً قرر ملاك الموت الرحيم أن يصحبه على جناحيه إلى حيث لا تعود الأجساد وتحلق الأرواح عند خالقها فيحاسبها بما فعلت، لها أو عليها.
أخيراً مات مانديلا بعد رحلة التكفير والاتهام بالشيوعية، بعد 27 عاما فى السجن ومحاربة الكهنة وأصحاب صكوك الغفران والقتلة والعنصريين والمتسلطين على رقاب الفقراء والمستضعفين، وبعد أن سجنوه أكثر من ربع قرن بعامين هزمهم، خرج من سجنه الطويل الطويل ليخروا فوق قدميه يقبلون حذاءه، لأنه هو من دافع عن الإنسان المضطهد فوق سطح "الدحية" التى حملت اسم "الكرة الأرضية"، قبلوا نعله ومنحوه صاغرين جوائزهم، فمنحته الرأسمالية العالمية المتوحشة "ميدالية الرئاسة الأمريكية للحرية"، ومنحته الشيوعية "وسام لينين من الاتحاد السوفييتى"، ولم ينسوا منحه جائزة نوبل للسلام من كل الذين أشعلوا الحروب.
خرج من السجن لينتخبه الشعب الذى حرره هو رئيسا، فتم تنصيب "مانديلا" فى "بريتوريا" كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا فى 10 مايو 1994، وتابع المراسيم عبر نقل الفضائيات مليار مشاهد حول العالم، وحضر هذا الحدث المهيب 4000 ضيف، من بينهم قادة العالم من خلفيات متباينة، أصبح "مانديلا" رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية التى هيمن عليها "حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى"، وهو لم تكن له أى تجربة فى الحكم، وضمت الحكومة أيضا نوابا من الحزب الوطنى وانكاثا، تمشيا مع الاتفاقات السابقة، أصبح "دى كليرك" نائب أول للرئيس، فى حين تم اختيار "ثابو مبيكى" نائبا ثانيا، وبالرغم من أن "مبيكى" لم يكن الاختيار الأول لهذا المنصب، إلا أن "مانديلا" أراده أن ينمو ليعتمد عليه بشكل كبير خلال فترة رئاسته، والسماح له بتنظيم تفاصيل السياسة، انتقل "مانديلا" إلى مكتب الرئاسة فى "كيب تاون"، وسمح لـ"دى كليرك" بالبقاء فى مقر الرئاسة واحتفظ بمنزله فى هوتون، وكان له منزل أيضا مبنى فى بلدته، كان يزوره بانتظام، ويتمشى فى أنحاء المنطقة ويجتمع مع السكان المحليين ويحل النزاعات القبلية، وبعد ذلك رفض مانديلا الترشح لفترة رئاسية ثانية.
مات "مانديلا" أخيراً، فى كتابه "رحلتى الطويلة من أجل الحرية" كتب "نيلسون مانديلا" إهداءه: "أهدى كتابى إلى أولادى الستة: الفقيد ماديبا والفقيدة ماكزيوى، كبرى بناتى، وإلى ابنى ماجاتو وبناتى ماكزيوى وزيناتى وزيندزى.. كما أهديه إلى أحفادى الواحد والعشرين وإلى أبناء أحفادى الثلاثة"، كتبوا عنه فى الموسوعات: "فى سنة 1918 ولد ابنا لأحد رجال عائلة فى قبيلة "الكوسا" للعائلة المالكة "تيمبو"، هو المحامى رئيس فرع حزب المؤتمر الوطنى، وألقت السلطة العنصرية القبض عليه مرارا وتكرارا لـ"أنشطة مثيرة للفتنة"، وحوكم مع قيادة حزب المؤتمر فى محاكمة الخيانة 1956-1961، فى البداية كان يحث على "احتجاج غير عنيف"، وبالتعاون مع الحزب الشيوعى فى جنوب أفريقيا شارك فى تأسيس منظمة "أومكونتو وى سيزوي" المتشددة، وألقى القبض عليه واتهم بالاعتداء على أهداف حكومية، وفى عام 1962 أدين بـ"التخريب والتآمر لقلب نظام الحكم"، وحكمت عليه محكمة "ريفونيا" بالسجن مدى الحياة، مكث مانديلا 27 عاما فى السجن، أولا فى جزيرة روبن آيلاند، ثم فى سجن بولسمور وسجن فيكتور فيرستر. وبالموازاة مع فترة السجن، انتشرت حملة دولية عملت على الضغط من أجل إطلاق سراحه، الأمر الذى تحقق فى عام 1990 وسط حرب أهلية متصاعدة، صار بعدها مانديلا رئيسا لحزب المؤتمر الوطنى الأفريقى ونشر سيرته الذاتية وقاد المفاوضات مع الرئيس دى كليرك لإلغاء الفصل العنصرى وإقامة انتخابات متعددة الأعراق فى عام 1994، الانتخابات التى قاد فيها حزب المؤتمر إلى الفوز، انتخب رئيسا وشكل حكومة وحدة وطنية فى محاولة لنزع فتيل التوترات العرقية.
كرئيس، أسس دستورا جديدا ولجنة للحقيقة والمصالحة للتحقيق فى انتهاكات حقوق الإنسان فى الماضى، استمر شكل السياسة الاقتصادية "الليبرالية" للحكومة، وعرضت إدارته تدابير لتشجيع الإصلاح الزراعى ومكافحة الفقر وتوسيع نطاق خدمات الرعاية الصحية، دوليا، توسط بين ليبيا والمملكة المتحدة فى قضية تفجير رحلة بان آم 103، وأشرف على التدخل العسكرى فى ليسوتو، امتنع عن الترشح لولاية ثانية، وخلفه نائبه تابو إيمبيكى، ليصبح فيما بعد رجلا من حكماء الدولة، ركز على العمل الخيرى فى مجال مكافحة الفقر وانتشار الإيدز من خلال مؤسسة نيلسون مانديلا، أثارت فترات حياته الكثير من الجدل، شجبه اليمينيون وانتقدوا تعاطفه مع الإرهاب والشيوعية.
كما تلقى الكثير من الإشادات الدولية لموقفه المناهض للاستعمار وللفصل العنصرى، حيث تلقى أكثر من 250 جائزة، منها جائزة نوبل للسلام 1993 وميدالية الرئاسة الأمريكية للحرية ووسام لينين من النظام السوفييتى. يتمتع ماندبلا بالاحترام العميق فى العالم عامة وفى جنوب أفريقيا خاصة، حيث غالبا ما يشار إليه باسمه فى عشيرته ماديبا أو تاتا، وفى كثير من الأحيان يوصف بأنه "أبو الأمة".
ومات "أبو الأمة"، مات "المناضل المثال..ياميت خسارة ع الرجال"، أمن قلب النار ولد مانديلا ليشعل عالم المقهورين بالحرية؟ أمن ضوء وجهه الأسود اختفت كل شياطين العنصرية التى سامت البشر المستضعفين سوء العذاب؟ أم بدأ جذر الحرية يغرس فى عمق الأرض ليطرح شجرة للعدالة تحمل كل ورقة فيها وجه شهيد تعمد بقطرة عرق تساقطت من جبهة مانديلا؟ يرحل اليوم مانديلا مبتلا بماء الينابيع ودموع الفقراء، يتحول الآن لغيمة تحمى المقهورين من لظى المتسلطين على رقاب خلق الله، اليوم يرحل مع الريح والعواصف ليظل عاصفة فى يد الفقراء، يعطى صبوته للبرارى، وشهوة الحرية للوديان والصحارى، جسدا من الماء الذى يروى عروق الأرض العصية، يجمع فرقة المستضعفين تحت جناحيه، لكنه سوف يبقى فى ليل العبيد حلما، ومطرا فضيا يلمع فى الظلمة الحالكة، ولكننا جميعا سوف نذكره بكل تفاصيل وجهه الأسود الجميل الذى منحنا وجه الحرية أبيضاً كالثلج والبرد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة