لم يحدث طيلة تاريخ مصر منذ إنشاء نظارة «وزارة» الداخلية أن خرج رجال الشرطة فى شتى المحافظات ليحتجوا ضد وزيرهم، لكن ما حدث أثناء ثورة 25 يناير وبعدها لم يكن مجرد واقعة تمر مرور الكرام، فقد شعروا بانكسار ومرارات دفعتهم لسلوك غير مسبوق، فقد تكبدوا فواتير سياسات عهد مبارك الذى كان يلقى بكل أزماته السياسية على عاتق جهاز الأمن، فتوحشت سلطاته كما تعاظمت الأعباء عليه، ليتحول إلى «آلة قمع» نموذجية لدولة بوليسية هدمها زلزال الثورة، فرأينا للمرة الأولى «كيانات تنظيمية» تولد خارج رحم الجهاز الأكثر مركزية، والقائم على الطاعة، وهى كلمة السر لأجهزة الأمن فى الدول البوليسية. و«الطاعة» عنوان عريض يمكن تفكيكه لعدة مراحل، تبدأ منذ التحاق الطالب بأكاديمية أو معاهد الشرطة فى عمر غض، ثم تغرس فيه منظومة قيم هى خليط من التراث المملوكى و«العثمانلى» ترسخ الطاعة، وتقمع أى بادرة للتمرد والتفكير وتعمق الاستعلاء، لتصنع كائناً فظاً غليظاً لا يشعر بالبسطاء، بقدر ما يعنيه رضا رؤسائه.
شاهد رجال الشرطة رؤساءهم وزملاءهم خلف القضبان، بل وضعوا القيود فى معاصمهم، وبغض النظر عن استحقاق هؤلاء للعقاب، فلا يمكننا تجاهل حقيقة بسيطة مفادها أن الشرطى إنسان، تراود مخيلته أنه يمكن أن يكون فى موضع زميله خلف القضبان يلاحقه العار ويستخف به الحابل والنابل، ورغم تبدل عدد من الوزراء خلال عامين فقد بقيت الأزمة، بل تعمقت وطفحت الدمامل على وجه الجهاز الذى أصبح فى محنة حقيقية، فالشرطى صار محشورا بين مطرقة الطاعة، وسندان ضميره و«درس الثورة»، لهذا رفعوا لافتات ورددوا هتافات ضد وزيرهم، الذى يبدو من سلوكه السياسى، وعبر معلومات متداولة، أنه وضع رجاله تحت تصرف مؤسسة الرئاسة، التى تتألف من دائرة يلعب فيها قادة الإخوان دور البطولة. رجال الشرطة أبناء مجتمع صار منقسما على ذاته بين مؤيدين ومناهضين لسياسات الإخوان التى ترفضها قاعدة عريضة لأسباب شتى أهمها: الاستحواذ والاستقطاب والاستقواء، وهو ما يحتج عليه الشعب بكل المظاهر السلمية والعنيفة، كما رفع رجال الشرطة لافتات تحمل عبارات مثل «لا لأخونة الداخلية».
فى زاوية أخرى من المشهد، ظهرت مجموعة تعلن عن هويتها العقائدية بإطلاق اللحى، باعتبارها «حرية شخصية، وسنة نبوية» لا تتعارض مع وظيفتهم، استنادا لعدم وجود نص فى قانون هيئة الشرطة يؤثم ذلك، لكن تقاليد الجهاز الراسخة تأبى ذلك، وكثيرا ما تكون الأعراف أقوى من القوانين. كارثة أخرى هى تشكل كيانات ممن أطلقوا على أنفسهم مسميات مختلفة وهى ظاهرة خطيرة غير مسبوقة. لكن ماذا فعل الوزير ليواجه هذه الشروخ؟.
أصدر مكتبه بيانات إنشائية عن استقلالية المؤسسة الأمنية، وعدم تورطها فى صراعات سياسية وغيرها من الشعارات التى لا تتسق مع واقع الحال، فما حدث وشاهده الملايين عبر الفضائيات وجود عناصر ترتدى ملابس مدنية تتصدى للمتظاهرين وتسحلهم، ناهيك عن إلقاء كميات هائلة من الغازات عليهم. مسؤولو الداخلية أكدوا أن هؤلاء من الشرطة السريين «المباحث» غير المسلحين إلا بقنابل الغاز، لكن شائعات راجت هنا وهناك تحدثت عن عناصر مما اصطلح على وصفهم بميليشيات الإخوان، هم من يفعلون ذلك بعلم الوزارة وربما بالتنسيق معها، وبالطبع فإثبات صحة ذلك يكاد يكون مستحيلا، لكن لا دخان من غير نار. يبقى التأكيد على أن الحديث بشفافية عن أزمة جهاز الأمن لم يزل أملا بعيد المنال، فلا أحد يدرى ما يجرى بالغرف المغلقة، وفى ظل آليات عمل تخضع لإرادة فردية دون رقابة جادة لن نصل لحل، بل ستتعاظم الأزمة. أقولها لوجه الله والوطن أن الحل يكمن فى إرادة سياسية لترسيخ استقلالية جهاز الأمن بعيدا عن هيمنة الإخوان والتى يشاركنى ملايين المصريين الشك فى مصداقيتهم، فقد ظل الخطاب المزدوج سمة أساسية لهم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة