بشفتين مجعدتين لم تنجح أكثر من خمس عشرة عملية تجميل فى إعادة رونقهما تحدثت. وبصوت واهن قالت: «كان عمرى فى ذلك الحين 12 عاماً، وكان ذلك اليوم صحواً، فجأة رأيت صاعقة من البرق أو ما يشبه عشرات الآلاف من الصواعق تومض فى لحظة واحدة، ثم دوّى انفجار هائل، بعدها ساد المكان ظلام دامس، وعندما أفقت وجدت شعرى ذابلاً، وملابسى ممزّقة، وكان بعض جلدى يتساقط عن جسدى، ولحمى ظاهر وعظامى مكشوفة. الجميع كانوا يعانون من حروق شديدة، وكانوا يبكون ويصرخون. هكذا كانت شهادة امرأة يابانية من القلائل الذين نجوا من انفجار «هيروشيما». أو ما يعرف بقنبلة «الولد الصغير» كما سمَّاها صانعوها.
الأمر لم يبدأ فى ذلك اليوم بل بدأ قبله بأعوام، وتحديدًا قبله بست سنوات وأربعة أيام، بدأ بمجرد رسالة مكتوبة، خطها أحد أكثر عقول القرن العشرين عبقرية، وأرسلها بإيعاز من عبقرى آخر إلى رئيس تلك الدولة القوية. وذلك العبقرى الآخر هو «ليو زيلارد» أحد أهم العقول الفيزيائية فى العالم فى ذلك الوقت، والذى جمعته بـ«أينشتاين» صداقة قديمة، نجح من خلالها «زيلارد» فى تخويف «أينشتاين» وبث فى نفسه أن النازيين على وشك الوصول إلى طريقة عملية لتحويل معادلته العبقرية إلى سلاح بشع. ذلك الخوف والهلع دفع «أينشتاين» لتحذير الرئيس الأمريكى «فرانكلين روزفلت» فى رسالة شاركه فى صياغتها «زيلارد»، ناصحًا الإدارة الأمريكية بالتقاط زمام المبادرة والبدء فى صناعة ذلك السلاح المدمر.
وبالفعل بدأ مشروع «مانهاتن» وتمكن الأمريكيون من تصنيع القنبلة. لكن ألمانيا النازية استسلمت ولم تتمكن من تصنيع القنبلة، وصار استسلام الإمبراطور اليابانى «هيروهيتو» مسألة وقت، وانتهت الحرب العالمية الثانية فعليًا. وزال الخوف أو كاد. لكن آثاره لم تزل. لم يقاوم الأمريكيون إغراء القوة الغاشمة والحسم السريع والمبهر للحرب، وربما تجربة السلاح الجديد على البشر بعد أن جربوه على الجمادات، وأُلقى «الولد الصغير» على اليابان. فى ثوانٍ معدودة قُتل سبعون ألف إنسان ومثلهم أو أضعافهم لقوا حتفهم على المدى البعيد، بسبب الآثار المدمرة لقنبلة «هيروشيما»، التى تبعتها بعد أيام قنبلة «الرجل البدين» كما أسموها التى كانت من نصيب سكان «نجازاكى»، نظرًا لغيوم كثيفة جعلت قائد الطائرة التى حملت القنبلة يغير وجهته ويلقيها على رؤوس أهل «نجازاكى» بدلا من مدينة «كوكورا» كما كان مقررًا لها. ربما كانت ألمانيا بالفعل فى طريقها لصناعة القنبلة الذرية لكنها فى النهاية لم تفعل، ولم يعد للخوف مبرر. لكن تجار الخوف لابد أن يكملوا تجارتهم ويجنوا أرباحهم، وقد كان. «لو علمت أن المطاف سينتهى بأبحاثى لهذه النتيجة لفضلت أن أكون صانع أقفال» هكذا قال «أينشتاين» بعد أن رأى ما فعله «الولد الصغير» و«الرجل البدين»، وهكذا ندم. لكن ندمه الذى أعلنه مرارًا واعترافه بخطأ الرسالة التى أرسلها لروزفلت لم يغير شيئًا من واقع أن رسالته كانت البداية لكل ما حدث، والمحرك الأول لذلك الدمار الشامل الذى يهدد العالم إلى اليوم. الدمار الذى كان بدايته الخوف.. الخوف الذى قد يكون سلاحًا أشد تدميرًا من القنابل إذا أجيد توظيفه، والبعض يجيد استثمار سلاح الخوف ويتقن التخويف وصناعة «البعبع». ومن خلال الخوف يستطيعون التحكم فى أتباعهم، وعن طريق التخويف يتمكنون من قيادتهم، وبالتفزيع يمكن التغاضى عن أى شىء وعن كل شىء. والإنسان خُلق هلوعًا بطبعه، ومن ثم تكون المهمة أسهل على كل من اتخذ التخويف سبيلاً للسيطرة، فتارة يكون التخويف من المؤامرة، وتارة أخرى يكون التخويف بالفزاعات والأشباح القادمة. وتحت ستار الخوف يحدث كل شىء ويُقبل أى شىء. حتى لو ثبت بعد ذلك أنه لم يكن خوفًا فى محله، أو لم يكن مبررًا كافيًا لما ترتبت عليه من آثار ونتائج، ومهما ندم من كانوا حطبًا لنيران الخوف، فإن آثاره تبقى، والمتاجرون به هم وحدهم من يجنون أرباحه، بينما يتجرع من انساقوا خلفه مرارات آلامه.