دائما عندما تدلهم الأمور أجده جالسا على المقهى وأمامه كل الصحف. ودائما عندما أقترب من الصحف أجدها قديمة. مرة زمان وجدت معه صحف مصر قبل ثورة يوليو 1952 وكان يدقق فى خبر صغير يقول إن لندن وباريس مدينتان نظيفتان مثل القاهرة. كان وقتها يفرك عينيه ولا يصدق. ولما سألته وأطلعنى على الخبر قلت له إن هذا حقيقى. وحتى لو كان فيه مبالغة فلقد كانت القاهرة من أنظف عواصم العالم. بدا غير مقتنع. ومر عامان والتقيته ومعه الصحف المصرية المعاصرة. ولما أدرك اندهاشى قال لقد قامت ثورة عظيمة يا أستاذ ورحل مبارك ولابد أن الصحف تغيرت وصارت مصدر ثقة. اختفى بعد ذلك من جديد حتى وجدته هذا الأسبوع وقد عاد إلى الصحف القديمة. صحف الخمسينيات. ضحكت.. قال:
- أعرف أن الأهرام مثل الأخبار مثل الجمهورية لكن عبدالناصر وحشنى.
قلت له:
- هل تحب عبدالناصر إلى هذا الحد؟
قال:
- أبدا لكن شىء غريب. كان عندما يخطب أجد نفسى أصفق له مع الناس.. وبعد الخطاب أكتشف أن أشياء جميلة راحت من مصر مثل الديمقراطية والأحزاب لكن أعود أصفق له من جديد إذا خطب. وبكيت كثيرا يوم رحيله.
- قلت له هى الكاريزما التى كان يتمتع بها ولم تتكرر.
قال:
- السادات أيضا كان عنده كاريزما. مش زى عبدالناصر طبعا وكانت تضحك كمان. لكن كانت موجودة. مبارك هو الذى كان يفتقدها.
قلت له:
- وما رأيك فى الدكتور مرسى؟
نظر إلىّ فى استغراب وقال:
- فى إيه؟
قلت له:
- مش عارف. وراح كل منا يشرب قهوته. وتركنى أنظر فى صحف عام 1919. أدهشنى أنها صور جديدة وليست الأصل. بها كثير من المناطق الغامضة بسبب التصوير والزمن الذى طمس كثيرا من معالم أصلها. لم أسأله هل لديه أصول هذه الصحف أم لا. قلت لنفسى رجل مثله لابد يصورها من دار الكتب. سألته:
- لماذا عدت بعيدا جدا هكذا؟
قال:
- أصل سمعت وقرأت عن العصيان المدنى الآن، وهذا لم يحدث إلا فى ثورة 1919. تعرف حضرتك إن الموظفين عملوا العصيان المدنى ضد الإنجليز.. والشعب كله طبعا. لكن عصيان الموظفين كان شيئا مذهلا لأن الموظفين عادة يتحركون بصعوبة إلى السياسة. تعرف أن غاندى جاء إلى مصر وقابل سعد زغلول وسأله معجبا كيف حقا اقتنع الموظفون المصريون بذلك. كان شيئا يدعو إلى الفخر.
سكت لحظات وقلت:
- ألم يكن من الأفضل للرئيس والحكومة أن تشرع فى تنفيذ مطالب الثورة ولا تصل بالشعب إلى هذا العصيان؟ لقد بدأ فى بورسعيد وسينتقل إلى غيرها. المصريون سيعجبون به. وإذا أعجبوا به ولن يوقفهم أحد.
قال لى:
- أنا أفكر فى شىء آخر. ليس مهما عندى أن تستجيب الحكومة أو تسقط.. ولا حتى أن يستجيب الرئيس أو يرحل. أنا رغم إعجابى بالثورة لكن زمنى قد ولى ولن أرى خيرا أو شرا أكثر مما رأيت.
قلت:
- طيب وفيم اهتمامك الشديد هذا بالعصيان المدنى؟
قال وهو يهز رأسه:
- فاكر لما قابلتك قبل الثورة بأيام وقلت لك الناس اللى بتقول مصر مش تونس مش فاهمة حاجة. وأن عزيزة التونسية حتفتح باب السجن ليونس المصرى زى ما عملت فى بلدها فى السيرة الهلالية؟
قلت:
- فاكر طبعا.. وهل أنسى ذلك؟
سكت قليلا وابتسم:
- أنا رغم الثورة العظيمة عندنا ورغم أثر الثورة التونسية فى شبابنا بس أنا ما احبش مصر تكون مديونة لحد.
- يعنى إيه؟
سألته غير قادر على الفهم فقال:
- لما حيحصل عصيان مدنى عندنا فى كل البلاد تفتكر بعد كده حيحصل فين؟
رحت أفكر لحظة لكنه سبقنى وقال:
- فى تونس. ما هو اللى حصل هناك زى اللى هنا. الثورة جابت بتوع الإسلام السياسى هناك وجابتهم هنا برضه. الشعب التونسى على طول حيقول عصيان مصر عصيان تونس. وهناك حيكون التخلص من بتوع الإسلام السياسى أسهل بعد العصيان. إحنا ممكن ناخد وقت شوية فى مصر. مش كتير.. كام يوم زيادة. بس حنكون سددنا الدين لتونس الخضراء. مصر حترجع زى طبيعتها يا أستاذ. تفتح الطريق لكل الدنيا. إيه رأيك؟ بأه. أستحق تعزمنى المرة دى كمان. أنا فاكر إنك عزمتنى كل مرة قبل كده.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
اللي يعجبك
العصيان المدني