بعد كلام كثير وكبير عن فساد عصر مبارك، وآليات الإفساد والمفسدين، وبعد إجراءات وتحركات وهمية لاسترداد أموال مصر المنهوبة، قرر الرئيس وحكومته التصالح مع المستثمرين الذين أُدينوا غيابيا، وصُورت الصفقة إعلاميا على أنها طوق النجاة لاقتصاد مصر المنهار!
والحقيقة أن شروط التصالح تشجع على ممارسة الفساد فى الحاضر والمستقبل، لأنها تنص على رد الأراضى والعقارات أو الأموال للدولة محل الجريمة، أو ما يعادل قيمتها السوقية وقت ارتكاب الجريمة إذا استحال ردها العينى، وطبعا معظم - إن لم يكن كل - الأراضى والأموال من المستحيل ردها لأنها وقعت قبل عشر سنوات أو أكثر، وبالتالى سيسدد لصوص عصر مبارك ما نهبوه بالقيمة السوقية وقت حدوث الجريمة، وهى- ولا شك- بسيطة للغاية نتيجة معدلات التضخم السنوية، حيث تآكلت قيمة الجنيه، ما يعنى أن حصيلة التصالح ستكون محدودة للغاية، ولن تصلح أحوال الاقتصاد كما يروج الإعلام الحكومى. وهى النتيجة المتوقعة أيضا للمفاوضات والتسويات القادمة التى يرتبها محامون من التيار الإسلامى مع بعض رموز النظام القديم لاسترداد الأموال المهربة للخارج، لأن أموال الفلول تحركت فى الأشهر الأولى للثورة عبر عواصم عديدة وعمليات معقدة، واستقرت فى دول خليجية وجزر صغيرة لا تلتزم بالقوانين والمعايير الدولية فى التدقيق فى مصادر الأموال أو ملاحقة أموال الفساد.
الحصيلة المادية للمصالحات ستكون هزيلة للغاية، لكن آثارها المعنوية والرمزية خطيرة ومدمرة، لأن المصالحات بالشكل الجارى تسقط حق المجتمع، وتعصف بمفهوم العدالة، حيث لا تربط عملية التصالح بمفهوم سليم وآليات واضحة للعدالة الانتقالية، ما يشجع على ممارسة الفساد والنهب المنظم لثروات الوطن، لأنه مادام لا يوجد حساب للمخطئ أو السارق أو الفاسد، فإن القانون يفقد معناه، بل إن القيم الأخلاقية تفقد مصداقيتها، حيث سيحاسب المجتمع صغار المجرمين من نشالين ونصابين ومختلسين ومزورين، ولا يحاسب كبار الفاسدين «رأسمالية المحاسيب» الذين سرقوا- وبشكل ممنهج- ثروات الوطن، وحرموا أجيالا من فرص الحياة الكريمة.
المجرم الصغير يحاسب والكبير لا يحاسب، لأن الاقتصاد فى حاجة إليه، هذا هو منطق الرئيس وحكومته، وهو منهج برجماتى فج، يعتمد معايير مزدوجة أبعد ما تكون عن الإسلام الذى يتحدثون عنه، وأبعد ما يكون عن العدل والمساواة بين المواطنين، لأن تعميم المصالحة والتساهل المريب مع الفاسدين والصناديق الخاصة يتوقف عند مخالفات الزند أو شفيق فى أراضى الطيارين، ويتحول إلى تشدد مبالغ فيه، وبغض النظر عن نتائج التحقيقات والإجراءات القضائية، فإن المسؤولية الجنائية للزند وشفيق تأخذ منحى انتقاميا وثأريا، إذا ما قورنت بعمليات المصالحة، ورد الأموال والهدايا لرموز نظام مبارك، وأنا هنا لا أبرئ الزند أو شفيق، إنما أطالب بأن يعاملا كبقية رموز نظام مبارك، وأن يحاكم الجميع وفق القانون والعدالة الانتقالية.
قناعتى أن اعتماد منهج التسويات بهذه الطريقة يكشف حقيقة أن التركيبة الاجتماعية والسياسات الاقتصادية للرئيس وحكومته لم تتغير عن نظام مبارك، نفس السياسات الليبرالية الجديدة.. التبعية لواشنطن.. رهن الاقتصاد فى يد حفنة من رجال الأعمال واستغلال التشريع لصالحهم.. استمرار تضخيم الدور السياسى لرجال الأعمال وتعيينهم فى مناصب حكومية، أو إسناد مهام سياسية لهم «حالات الشاطر ومالك وحداد»، ولكن ثمة تغييرات شكلية محدودة بين نظام مرسى ومبارك، أهمها إكساب نظام الحكم وسياسات مبارك القديمة مسحة إسلاموية زائفة، وتشجيع ظهور وتنامى رجال أعمال من الصف الثانى والثالث ليحلوا محل بعض الوجوه القديمة من الصف الأول، وبدلا من هيمنة الحزب الوطنى تستمر عملية أخونة الدولة وهيمنة الجماعة، وهى- ولا شك- أخطر من هيمنة حزب مبارك، لكنها أقل كفاءة فى إدارة الدولة، وهذه هى الكارثة.